منهجية معاوية السياسية وطريقته في الحكم:
فقد كان رضي الله عنه أحد دهاة العرب ورجل دولة عاقلًا في دنياه حليمًا قويًّا، جيدَ السياسة، حسن التدبير، حكيمًا، محبًّا للرئاسة، شغوفًا بها، واجتهد في أن يقيم صرحَ الدولة الإسلامية على عدةِ أركان؛ بهدف استمرارية النظام الذي أنشأه، والمحافظة على أمن الدولة، واستقرارها، ومواصلة الدعوة الإسلامية والجهاد، ويمكن أن تتخلص منهجية معاوية السياسة في النقاط الآتية:
أولًا: إخضاعُ المعارضة، وتحقيق الاستقرار في الداخل.
ثانيًا: اختيار ابنه يزيد لولايةِ العهدِ، والبيعةُ له بها.
ثالثًا: العمل على تطوير النظم الإدارية والمالية للدولة الإسلامية.
رابعًا: بناء الجيش وتنظيمه وتطويره ومواصلة الفتوحات الإسلامية في جبهاتها الثلاث المشرق -يعني: في خراسان، وبلاد فارس- والشمال الأفريقي، والدولة البيزنطية في آسيا الصغرى.
أولًا: إخضاع المعارضة: 
وتتمثل المعارضة في الخوارج وشيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة.
1. الخوارج، لقد زاد نشاط الخوارج بعد أن تآمرُوا على قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقويت شوكتهم، منذ قيامِ الخلافة الأموية، لقد بدءوا ثورتهم منذ عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حيث واجه منهم معارضةً قويةً فما كاد يبدأ بالرحيل إلى الشام، بعد أن تنازل له الحسن بن علي عن الخلافة؛ حتى ثار الخوارج بقيادة رجل منهم اسمه: فروة بن نوفل الأشجعي.
وكانوا قد اعتزلوا في خمس مائة رجل في بلدة يقال لها: "شهرزور" وهاجم الكوفة فقاتلهم أهلها حتى قتلوا، ثم أعاد الخوارج هجومهم مرة أخرى سنة ثلاث وأربعين من الهجرة، بقيادة رجل آخر يدعى "المستورد بن عُلَّفَة التيمي" فجهز المغيرة بن شعبة أمير الكوفة جيشًا من ثلاثة آلاف، وأرسل عبد الله بن عامر أمير البصرة جيشًا آخر من أهل البصرة، ممن كان يستحل قتال الخوارج، وبعد جولات طويلة انتهى الأمر بمقتل الخوارج عن آخرهم؛ بالقرب من مدينة المدائن".
وقد ثار خوارج البصرة كذلك عدة مرات سنة واحد وأربعين، وخمسة وأربعين، وسنة خمسين، وقد عبثوا بالأمن والنظام؛ فاشتدد زياد بن أبي سفيان أمير العراق في عهد معاوية في أمر الخوارج، وجرد فيهم السيف، وتعقبهم وعاقب على الشبهة، ولما تولى ابنه عبيد الله بن زياد من بعده الإمارة على البصرة سنة خمس وخمسين لم يكن بأقل من أبيه شدة على الخوارج، بل كان أكثر منه صرامةً، فحبس من اشتبه فيه منهم، وقتل جماعةً كبيرةً، وظل يتتبعوهم، وكان من أبرز الخوارج الذين قتلهم الأمير عبيد الله بن زياد: عروة بن أُدَيَّةَ التميمي، وهو أول من دعا إلى التحكيم في معركة صفين قبل ذلك بعشرين عامًا.
2. وقد واجه معاوية بن أبي سفيان بالإضافة إلى خطر الخوارج خطرًا آخرَ تمثل في شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة، ويأتي في مقدمة هؤلاء حُجر بن عدي بن ربيعة الكندي الكوفي أبو عبد الرحمن من أهل الكوفة، وهو من أوائل طبقة التابعين. وقيل: إنه معدود في الصحابة.
وَوَفَدَ مع أخِيهِ هدبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رواية له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقب بحجر الخير؛ شهد معركةَ القادسيةِ سنة خمس عشرة من الهجرة -يعني: في فتوحات العراق- وغزا بلاد الشام، وهو الذي فتح قرية مرج عذراء، وهي من قرى "غوطة دمشق" تبعد عنها خمسة عشر ميلًا، وكان من أنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومتشيعًا له، شهد معه معركتي "الجمل، وصفين".
وقد وثقه ابن سعد في كتابه (الطبقات الكبرى) وقال عنه: كان ثقةً معروفًا. وقال الإمام الذهبي عن حُجْر: كان شريفًا وأميرًا مطاعًا، أمَّارًا بالمعروف، مقدمًا على الإنكار، من شيعة علي رضي الله عنه وكان ذَا صلاحٍ وتعبدٍ".
وَوُصِفَ أيضًا بأنه كان من عباد الناس، وزهادهم، بارًّا بأمهِ، كثيرَ الصلاة والصيام. وقد أمر معاوية رضي الله عنه بقتل حجر بن عدي سنة واحد وخمسين، وكان ذلك من المآخذ التي أخذت على معاوية، فأين الحقيقة، وأين الحق فيما حدث؟.
لقد كان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وهو من الصحابة أميرًا على الكوفة في خلافةِ معاوية رضي الله عنه وكان إذا خطب وذكر عليَّ بن أبي طالب في خطبتِهِ ينال منه، ويتنقصه، ويمدح عثمان بن عفان رضي الله عنه وأنصاره؛ فإذا سمع حجر بن عدي ذلك يغضب، ويظهر الإنكارَ على المغيرة؛ لكنَّ المغيرةَ كان يقابل ذلك بالحلمِ والصفحِ، ويحَذِّرُ حجرًا عاقبةَ ما يصنع، ويوضح له أن معارضة السلطان شديد وبالها.
ولم يرجع حجر عن ذلك، واستمر في إنكاره ومعارضته على ملأ من الناس، فلما كان في آخر أيام المغيرة قام حجر يومًا فأنكر عليه أثناء الخطبة، وصاح بِهِ وذَمَّهُ بتأخيرِ العطاءِ، وقام معه جماعاتٌ من الناس يصدقونه ويؤيدونه، وبعد الصلاة دخل المغيرة دار الإمارة ودخل معه جماعةٌ من الأشراف والقادة؛ فأشاروا عليه بردع حجر وزجره عما يفعل ومعاقبته؛ بسبب شق عصا الطاعة، وإنكاره على الأمير علانيةً، وتحريض الناسِ عليه، لكن المغيرة كان يقابل ذلك كله أيضًا بالعفوِ والصفح.
ولما مات المغيرة بن شعبة سنة خمسين من الهجرة؛ جمع معاوية بن أبي سفيان الكوفة والبصرة لأمير آخر هو زياد بن أبي سفيان، الذي كان يقال له زياد بن أبيه، وولاه عليهما، وظل زياد أميرًا على البصرة والكوفة إلى أن توفي سنة ثلاث وخمسين فتولاهما ابنه من بعده عبيد الله بن زياد.
كان زياد من أصحاب علي بن أبي طالب وأنصاره، ومن المؤيدين له في خلافة مع معاوية، وولاه علي الإمارة على فارس، وكرمان، فلما قُتِلَ علي رضي الله عنه توسط المغيرة بن شعبة بين زياد ومعاوية، واستجاب زياد لهذه الوساطة وبايع معاويةَ بالخلافة، ثم ولاه أميرًا على البصرة سنة خمس وأربعين، ثم ضَمَّ إليه بعد ذلك إمارةَ الكوفة بعد وفاة المغيرة سنة خمسين.
وكان حُجْر من أولياء زياد، ومن أصحابه وأنصاره، ولكن لم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما بايع زياد معاوية بالخلافة وتولى له إمارة البصرة والكوفة بدأ حجر يتغير ويظهر معارضته لزياد مدفوعًا بعاطفة التحزب والتشيع.
وكان حجر من المعارضين لصلح الحسن بن علي مع معاوية، وكان يعلن ذلك في حياة المغيرة بن شعبة أمير الكوفة قبل زياد، فكان المغيرة يحلم عليه ويعفو عنه -كما مر ذكره- ولما مات المغيرة سنة خمسين، ثم مات الحسن بن علي فجأة سنة واحد وخمسين، تحول حجر بن عدي من المعارضة القولية إلى المعارضة الفعلية والقولية، وأخذ يحرض الناس على الخليفة دون خشية أو خوف.
ولما قدم زياد بن أبيه واليًا على الكوفة وجد جماعاتٍ من شيعة علي يلتفون حول حجر بن عدي ويشدون على يده، ويحرضونه على المعارضة، ويعلنون سبَّ معاوية والبراءة منه، وحينما خطب زياد أول خطبة بالكوفة ذكر في آخرها فضل عثمان بن عفان رضي الله عنه وذمَّ قاتليه ومن أعان على قتله؛ فقام حجر بن عدي كما كان يفعل في أيام المغيرة بن شعبة وتكلم بنحو ما كان يتكلم فلم يتعرض له زياد بشيء، وأراد أن يصطحبه معه إلى البصرة، فقال حجر: "إني مريض"، فقال زياد: "إنك لمريض الدين والقلب والعقل، والله لئن أحدثت شيئًا لأسعينَّ في قتلك".
وروى ابن سعد في كتابه (الطبقات الكبرى): "أن زياد بن أبيه دعا بحجر بن عدي، ونصحه بأن يكف عما يصنع، وأن يمسك لسانه عما يقول، وقال له: أُمْلُك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك، وحوائجك مقضية لديَّ، فاكفني نفسك فإني أعرف عجلتك -يعني: سرعتك وتسرعك- فأنشدُك اللهَ في نفسك، ثم حذره من هؤلاء الذين يلتفون حوله، ويحرضونه على السلطان".
ثم إن زيادًا انصرف إلى البصرة، وكان يقيم فيها ستةَ أشهر، ويقيم في الكوفة ستةَ أشهر أخرى، وترك نائبًا له على الكوفة اسم عمرو بن حريث؛ فعاد أصحاب حُجْر يترددون إليه، ويسيرون معه في طريقه إلى المسجد، ويحرضونه، ويقولون له: أنت شيخنا، وبدءوا يثيرون الفتنة، وكانوا يجلسون معه وحوله في المسجد، وهم في كامل سلاحهم، ورموا عمرو بن حريث بالحَصَى، وهو يخطب على المنبر يوم الجمعة.
وقد وصلت هذه الأخبار إلى زياد؛ فانتقل بسرعةٍ إلى الكوفة وخطب في الناس فقال: "إن هؤلاء أمنوني؛ فاجترءوا عليَّ، وايْمُ الله هو يقسم، وايم الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ثم قال: ما أنا بشيء إن لم أمنع ساحة الكوفة من حجر وأصحابه وأدعه نكالًا لمن بعده".
ويروى: إن زيادًا لما خطب طولَ الخطبةَ، وأخَّرَ الصلاة، فقام حجر وقال: الصلاة رفع به صوته أثناء الخطبة، فمضى زياد في خطبته فلما خشي حجر فوت الصلاة عمد إلى كفٍّ من الحصا، ونادى بأعلى صوته الصلاة، وثار الناس معه، فلما انصرف زياد من صلاته كتب بذلك إلى الخليفة معاوية في أمر حجر وأصحابه، وما يصدر منهم، فكتب إليهم معاوية بأن يقبض عليه، ويشده في الحديد ويرسله إليه في دمشق.
وقبل أن ينفذ زياد ما أمره به الخليفة، أرسل إلى حجرٍ جماعةً من أشراف الكوفة فيهم الصحابي جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه فكلموه في أن يكف عما يفعل، وأن يترك تحزيب الناس حوله؛ فلم يبالِ بهم حجر، ولا يستجب لنصائحهم، وحاول هؤلاء أن يرقِّقُوا قلب زياد، وسألوه الرفق بحجر بن عدي فلم يفعل، وأرسل إليه جنوده، فلم يزالوا به حتى أحضروه إلى زياد بعد عدةِ محاولات؛ فَقَيَّدَهُ وسجنه عشرةَ أيام، ثم وافق زياد على الشرط الذي اشترطه حجر عند استسلامه، وهو أن تحال القضية إلى الخليفة معاوية؛ ليحكم فيها بنفسه".
فبعث به زياد إلى معاوية ومعه عشرون، أو أربعة عشر من كبار أنصارِه ومؤيده، وبعث معه جماعةً يشهدون عليه أنه سب الخليفة، وأنه حارب الأمير، وأنه يقول: إن هذا الأمر -يعني الخلافة- لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب.
ولما وصل حجر وأصحابه العشرون أو الأربعة عشر إلى قرية مرج عذراء، وتبعد خمسة عشر ميلًا عن دمشق، أرسل معاوية من تلقاهم بها، فقتلوا هناك.
وذكر محمد بن سعد في كتابه (الطبقات الكبرى): أن معاوية استشار أمراءه ومستشاريه في أمرهم؛ فمن مشير بقتلهم، ومن مشير بتفريقهم في البلاد، ثم أرسل إلى زياد بن أبيه كتابًا آخر في أمرهم؛ فأشار عليه زياد بقتلِهِم إن كان له حاجة في استقرار العراق؛ فعند ذلك أمر معاوية بقتلهم، فاستوهب منه الأمراء واحد بعد واحد حتى استوهبوا منه ستة، وقتل منهم سبعة، أولهم: حجر بن عدي، وعفا عن واحد رجع عن آرائه وموقفه.
ويذكر أن حجرًا لما أرادوا قتله، قال: "دعوني حتى أتوضأ، فقالوا له: توضأ، فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين فصلاهما، وخفف فيهما ثم قال: لولا أن يقولوا ما بي جزع من الموت لطولتهما، ثم قدموه للقتل فقتل".
قال محمد بن سيرين: "لما أوتي بحجر، قال: ادفنوني في ثيابي فإني أبعث مخاصمًا".
وروى ابن عون عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر في السوق فنعي إليه حجر -يعني: جاءه خبر مقتل حجر- فأطلق حبوته، يعني قام من جلسته وكان محتبيًا، وقام، وقد غلب عليه النحيب، يعني كان يبكي بصوت.
وقد أخذ على معاوية رضي الله عنه قتله حجر بن عدي، ولامته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه على ذلك.
فقد روى ابن عساكر في كتابه (تاريخ دمشق) من طريق عبد الله بن الأمام أحمد بن حنبل قال: لما قدم معاوية -يعني: إلى المدينة في الحج- دخل على عائشة رضي الله عنه فقالت: أقتلت حجرًا؟ قال: يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس خيرٌ من استحيائه في فسادهم".
وروى الإمام أحمد عن ابن علية عن أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: "لما قدم معاويةُ المدينة دخل على عائشة -يعني: استأذن في الدخول إليها- فقالت: أقتلت حجرًا؟ فقال: وجدت في قتلهِ صلاحَ الناس، وخفت من فسادهم".
وفي رواية عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب، عن مروان بن محمد، قال: "دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة، فقالت: يا معاوية أقتلت حجرًا وأصحابه، وفعلت الذي فعلت؟ فقال: يا أم المؤمنين، كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك، وأمرك؟ قالت: أنت صالح، قال: فدعيني وحجرًا حتى نلتقيَ عند ربنا ".
إن حجر بن عدي أنصاره -وكما يذكر الطبري في روايته- كانوا ينالون من عثمان بن عفان رضي الله عنه يعني: ينتقصون من شأنه، وكانوا يطلقون فيه مقالة الجور، وينتقدون على الأمراء ويسارعون في الإنكار عليهم، أي: في معارضتهم، وإثارة الناس عليهم، ويبالغون في ذلك، ويتولون شيعةَ علي، يعني: يفضلون عليًّا وأبناءه، وأنهم أحق بالخلافة، ويتشددون في الدين هذه رواية الطبري في تاريخه.
ومع إصرار حجر وأتباعه على هذه المبادئ؛ فقد اعتبره معاوية ساعيًا في الأرض بالفساد، وأنه خشي إن تركه أن يثير الفتنة بين الناس، ويعرض أمن المجتمع واستقراره للفوضى، ثم إنه لم يقدم معاوية على ذلك إلا بعد أن استشار في أمرِ حُجْر، ولم يجد أمير العراق زياد بن أبيه حلًّا سلميًّا لمشكلته، فرفع شأنه إلى الخليفة مع شهادة الشهود.
وقد يقول قائل: كان ينبغي لمعاوية ألا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه، ونقول: إن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها، وهو على منبر المسجد، فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه أبدًا، وخاصة في مدينة الكوفة التي بها أهل الفتنة والساعون فيها كما هو معروف عنها زمن الخلفاء الراشدين.
وغاية ما يمكن أن يقال في هذه القضية تلك العبارة التي نطق بها معاوية نفسه حين كلمته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه فقد قال لها: "دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند ربنا "، ونحن نقول أيضًا: دعوه وحُجْرًا حتى يلتقيا عند الله تعالى.