زواجه -صلى الله عليه وسلم- مِن سَوْدة -رضي الله عنها-، وهجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى الطّائف، وعوْدته إلى مكة

زواجه -صلى الله عليه وسلم- مِن سَوْدة -رضي الله عنها:-
هي: سَوْدة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامريّة القرشيّة، وأمّها: الشموس بنت قيس، مِن بني النجار. تزوّجها السّكران بن عمرو بن عبد شمس،وأسلمت قديماً هي وزوجها، وخرجَا جميعاً مهاجرَيْن إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية. 
مات زوجُها بأرض الحبَشة، أو بعدَ الرجوع إلى مكة.
أمّا زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها، فقد ذُكر أنّ خولة بنت حكيم السّلمية امرأة عثمان بن مظعون أتتْ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمفقالت له: ((يا رسول الله، كأنِّي أراك قد دخلتْك خلّة لفقْد خديجة. فقال: أجَل! كانت أمّ العيال وربّة البيت. قالت: أفلا أخطُب عليك؟ قالبلى، فإنّكنّ معشر النِّساء أرْفق بذلك)). فخطبت عليه سودة، فقالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَمْرِي إليْكَ. فقال لها: مُرِي رجُلاً مِن قومك يُزوِّجك؛ فأمَرت حاطب بن عمرو، فزوَّجها، فكانت أوّل امرأة تزوّجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة. وكان ذلك في رمضان سنة عشر، وانفردت به نحواً مِن ثلاث سنين حتى دخل بعائشة.
فلمّا كبرت، وأصبحت لا رغبة لها في الرجال، وخافت مِن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنْ يُطلِّقها، طلبت منه إبقاءها ضِمْن زوجاته، وأنّها وهبت يومهالعائشة -رضي الله عنها-؛ وفي ذلك أنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً}.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيتُ امرأة أُحِبُّ أنْ أَكُون في ملاحَتها وزُهدها وصلاحِها مِن سودة"، أخرجه مسلم.
وكانت تُضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت له يوماً: ))صلّيْت خلْفك البَارحةَ، فركعتَ بِي حتى أمسكتُ بأنفي مخافة أنْ يقطر الدّم؛ فضحك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم)).
وحجَّ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- حجّة الوداع بنسائه، قال: ((هذه الحجّة، ثم ظهور الحصر))، قال أبو هريرة: فكان نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك يحجُجن، إلا سَوْدة بنت زَمْعة وزينب بنت جحش، قالتا: "لا تحرّكنا دابَّةٌ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
وبعث عُمر بن الخطاب بغرارة مِن دراهم إلى سَودة، فقالت: "ما هذه؟ قالوا: دراهم. قالت: في الغرارة مثْل التّمر! ففرّقتْها.
واختُلف في تاريخ وفاتها، فقيل: في شوال سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية. وقيل: توفّيت في خلافة عُمر بن الخطاب. ورجّح الواقدي القول الأوّل -فرضي الله عنها وأرضاها-.
هجرته -صلَّى الله عليه وسلم- إلى الطّائف:
قال ابن إسحاق: لمّا هلك أبو طالب، نالت قريش مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن الأذى ما لمْ تكُن تناله منه في حياة عمِّه. خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، يلتمس النُّصرة من ثَقِيف، والمَنَعَة بهم مِنْ قَومه، ورَجَاء أنْ يَقبَلوا منه الإسلام.
ورُويَ أنَّ خروجه إلى الطَّائف كان بعد وفاة خديجة -رضي الله عنها- بثلاثة أشهر وثمانية أيّام. وتذْكر بعض الرِّوايات أنّه خرج ومعه زيد بن حَارثة.
وذكر ابن إسحاق: أنه -صلى الله عليه وسلم- عندما ذَهب إلى الطّائف، الْتقى سادة ثقيف إذّاك، وهم: أبناء عمرو بن عُمير عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، وعرض عليهم الإسلام، فلمْ يقبلوا منه، بل سَخِروا منه. وعندما يَئِس من خيْر ثقيف، طلب منهم أنْ يَكْتموا عنه ما دار بينهم حتى لا يُثِيروا عليه النَّاس،ولكنّهم لمْ يفعلوا، وأغْرَوا به سفهاءهم وعبيدهم، فأخذوا في سبِّه والصّياح به حتى اجتمع عليه الناس، وألجَؤوه إلى حائطٍ لعُتبة وشَيبة ابنَيْ ربيعة، وهما فيه. ورجع عنه ما كان يَتبَعه مِن سفهاء ثَقِيف، وجلس في ظلّ شجرة عِنب، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقِي مِن سفهاء الطائف.
وعندما رآه ابنا ربيعة على هذه الحال، تحرّكت فيهما عاطفة الرَّحمة، فأمرا غلاماً نصرانياً يُدعى: عدَّاساً، أنّ يقدِّم له عِنباً. وتعجَّب عَدَّاس مِن قول النبي -صلى الله عليه وسلم--: بسم الله، قبْل أنْ يَأكل، فأعلمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه نَبِيّ، فأخذ يقبِّل رأسَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَدَميْه ويَديْه.
وجاء ابنا ربيعة يَصُدّانه عن النبي -صلى الله عليه وسلمقائلَيْن له: "لا يَصرفنَّك عن دينك! فإنّ دِينك خيْر مِن دينه
وفي رواية: أنّ سفهاء الطائف قعدوا صَفَّيْن للرسول -صلى الله عليه وسلم- على طريقه، فلما مرَّ بيْن صَفَّيْهم جعلوا لا يرفع رجليْه ولا يضعهما إلاّ رَضَخُوهما بالحِجارة، حتى أدْمَوا رجليْه. وكان ذلك مِن أشدِّ ما لقِي النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: ((هَل أتى عليك يومٌ كان أشَدَّ عليك مِن يوم أُحُد؟ قال: لَقِيتُ مِن قومك ما لقِيت، وكان أشدُّ ما لقيتُ منهم يوم العَقَبة، إذ عرَضْتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يُجبْني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مَهْمُومٌ على وَجْهي، فلمْ أسْتَفِقْ إلاّ وأنَا بقَرْن الثَّعالب. فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسَحَابةٍ قد أظلّتْني، فنظرْت، فإذا بجبريل. فناداني فقال: إنّ الله قد سمِع قول قومك لك وما ردّوا عليك, وقد بعث الله إليك ملَك الجبال. فسلّمَ عليّ، ثم قاليا محمد، إنْ شئتَ أنْ أُطبِق عليهم الأخْشبيْن، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أنْ يُخرج الله مِن أصلابهم مَن يَعبُدُ الله وحده، ولا يُشرك به شيئاً.
وكان -صلى الله عليه وسلم- بعدما أيِس مِن أهل الطائف واستقرَّ تحت ظلّ شجرة العِنب، رفع يديْه إلى السماء وقال الدعاء التالي، وهو دعاء الكرْب، فقال-صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم إليك أشكو ضعْف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين! أنت ربّ المُستضعَفين، وأنت ربي. إلى مَن تكِلني؟ إلى بعيدٍ يتجهّمُني؟ أم إلى عدوّ ملَّكْتَه أمْري؟ إنْ لم يكُن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمْر الدنيا والآخرة، مِن أنْ تُنزل غضبك، أو يحلّ عليَّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك)).
وكانت إقامته بالطائف عشرة أيام، كما ذكر ذلك ابن سعد في "الطبقات"، وقيل: كانت إقامته بالطائف شهراً.
عوْدته –صلى الله عليه وسلم- إلى مكة:
مَكث -صلى الله عليه وسلم- الفترة التي مكثها في الطائف، سواءً كانت عشرة أيام أمْ شهراً، إلاّ أنه كان حزيناً لموقف ثَقِيف، ولِمَا يتوقّع مِن قريش عند عودته إلى مكة، وفي طريقه -صلى الله عليه وسلم- جاءه ملَك الجبال -كما تقدّم-. 
أقام -صلى الله عليه وسلم- أياماً بوادي نخلة، وخلال إقامته هناك أرسل الله إليه نفراً مِن الجِنّ، ذكرهم الله في موضعيْن مِن القرآن:
الموضع الأول: في سورة (الأحْقَاف) {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
والموضع الثاني: في سورة (الجنّ) {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} إلى الآية الخامسة عشرة.
وأمام هذه البِشارات التي تَضَمّنتها هذه الآيات، والتّأييد الذي بعثه الله إليه مِن مَلَك الجِبَال، إلى إسلام النّفر مِن الجنّ، انقَشَع الحُزن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقرّر العَودة إلى مكة المكرمة، فقال له زيدٌ، مولاه ورفيق درْبه: "كيف تدخُل عليهم وقد أخرجوك؟" -يعنيقريشاً-. فقال: ((يا زيد، إنّ الله جَاعِلٌ لِمَا تَرى فَرَجاً ومَخْرجاً. وإنّ الله نَاصر دِينه ومُظْهِر نَبِيّه)).
وسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا دنا مِن مكة، مكث بِحراء، وبعث رجلاً مِن خُزَاعة إلى الأخْنَس بن شَريق لِيُجيره. فقال: أنا حَلِيف، والحَلِيف لا يُجير. 
فبعث إلى سُهَيل بن عمرو، فقال سُهيل: إنّ بَنِي عامر لا تُجير على بني كَعب
فبعث إلى المُطْعِمْ بن عَديّ، فقال المُطْعِم: نعم! ثم تَسَلَّح وَدَعا بَنِيه وقَومه، فقال: البسوا السِّلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإنّي قَد أجَرْتُ مُحمداً . ثم بعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنِ ادخُلْ! فدخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه زيد بن حَارثة، حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المُطْعِمْ بن عَديّ على راحلته فنادى: يا معشر قريش! إني قدْ أجرْت محمداً فلا يُهِجه أحد منكم! وانتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الركن فاسْتَلمه، وصلّى ركعتيْن وانصرف إلى بَيتِه، ومطعم بن عديّ وولده مُحدقون به بالسلاح، حتى دخل بَيْتَه.
وقيل: إنّ أبا جهل سأل مُطْعِماً: أمُجِير أنت أم مُتَابع؟ قالبل مُجير. قال: قد أجَرْنا مَن أجرْت.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يذْكر هذا المَوقف النّبِيل للمُطْعِم بن عَديّ، فقال في أَسْرَى بدْر: ((لو كان المُطعم حياً ثُمَّ كلّمَني في هَؤلاء النَّتْنَى؛ لَتَرَكْتُهُم له)).