وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
أ. ما استنبطه العلماء من حادث الهجرة:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدخل المدينة إلا بعد أن أرسل القرَّاءَ والمعلمينَ؛ ليهيئ الظروفَ المناسبةَ للدعوةِ، فلمَّا فتحوا قلوب الناس، وبدأ الناس التحول لدين الله- غزاها النور فأضاءت.
الثاني: مَثَّلَتْ الهجرة قيام نظامٍ جديد، ولاحظ ذلك خليفةُ المؤمنين عُمر بن الخطاب، عندما اختارها مبدًا للتقويم الإسلامي.
الثالث: أثبتت الهجرة النبوية أن الإنسان يُضحي بكلِّ غالٍ ونفيسٍِ في سبيل نصرة الدين والدعوة، ويتمثل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا مكة: ((ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)). وهذا هو التطبيق العملي لقول الله عز وجل: { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } [العنكبوت: 56].
الرابع: أن الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، والذي انقضى بفتح مكة المكرمة هو قصد النبي صلى الله عليه وسلم. أي: هو القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة في رأي بعض العلماء.
الخامس: على المسلمين أن يناصر بعضهم بعضًا، وإن اختلفت الديار، وتناءت البلاد، طالما كان ذلك في الإمكان، وهذا ما فعله الأنصار مع المهاجرين.
السادس: اقتضت رحمة الله بعباده ألا يقوم المسلمون بالقتال إلا بعد أن تكون لهم دار إسلام، تعتبر بمثابة معقل يلوذون به، ولقد كانت المدينة المنورة هي تلك الدار، فكان الإذن بالقتال.
السابع: كان في موقف المِكِّيين من رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض عجيب، ففي الوقت الذي كانوا يُكذِّبون فيه محمدًا، ويتهمونه بالسحر تارةً، وبالجنون أخرى، فإنهم لم يجدوا أفضل منه أمانةً وصدقًا، فيتركون عنده أغلى ما يملكون.
الثامن: ما قام به عبد الله بن أبي بكر، وأخته أسماء، وعامر بن أبي فهيرة من خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أثناء وجودهما في الغار، ينبغي أن يكون نموذجًا يحتذيه الشباب المسلم.
وكان استئجار النبي e وصاحبه لعبد الله بن أريقط؛ ليدلهما على الطريق برغم شِرْكِهِ، يدل على أنه لا بأس من الاستعانة بغير المسلمين؛ طالما كان غير المسلم موضع ثقة، وصاحب خبرة معًا.
التاسع: يُلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر دعوته على قريش؛ بل كان يدخل بين القبائل الوافدة من خارج مكة، وكان أنصاره أول الأمر من غير بيئته, ومن غير قومه، حتى لا يُظن ظانٌ أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت قومية، فرضتها ظروف قومه، أو فرضتها بيئة قومه، أو فرضتها حاجتهم إليه.
العاشر: تدل بيعة العقبة على أن الجزم القلبي وحده لا يكفي، والنطق بالشهادتين دون عمل ليس كافيًا، ومن يزعم أن قلبه نقي وهذا يكفيه، وليس في حاجةٍ إلى عملٍ فَقَد كَذَبَ، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قومًا غرتهم الأماني, فزعموا أنهم يحسنون الظن بالله, وكذبوا, لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل)).
الحادي عشر: يستنبط من الهجرة وأحداثها أن أموال غير المسلمين لا تُستباح، ولا تحل لأحد، فقد استبقى النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا ليرد الأموال لأصحابها، فَرَدُّها واجبٌ حتى مع من خانونا؛ لحديثه صلى الله عليه وسلم: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك, ولا تخن من خانك)).
الثاني عشر: خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيدي الكفار المحيطين بمنزله من أكبر المعجزات، وفي هذا إعلان لأعداء الإسلام في كل وقت أن الله لن يتخلى عن عباده المؤمنين.
الثالث عشر: في الهجرة يعلمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من التخطيط الدقيق, حتى لو كان الإنسان مطمئنًا على سلامة موقِفِهِ، وكل الحقائق كانت تؤكد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله معه وناصره، ومع هذا لم يتعجل الهجرة، وإنما انتظر الوقت المناسب، وخطط تخطيطًا دقيقًا، حتى جاءه أمر الله بالخروج من مكة، ولم يخرج نهارًا، وإنما خرج ليلًا ليس جبنًا أو خوفًا، وإنما هو الترتيب الدقيق، والتخطيط السليم، والتأني في اتخاذ القرار.
ب. لماذا لم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم علانية؟
ذكرت بعض الروايات أن عمر بن الخطابt هاجر علانيةًً، قائلًا: "من أراد أن تثكله أمه، أو يُيتم ولده، أو ترمل زوجته، فليتبعني وراء هذا الوادي، فلم يتبعه أحد". هذه رواية تجعلنا نتساءل, لماذا لم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم علانية كما فعل عمر بن الخطابt؟
السبب: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل كلَّ الأساليبِ الماديةِ التي يمكن أن يتوصل إليها عقلٌ بشري، لقد ترك عليَّا على فراشه، واستعان بأحد المشركين ليدله على الطريق، وأقام في الغار أيامًا ثلاثة حتى سكن الطلب عليه، كل ذلك ليؤكد لنا أن الإيمان بالله عز وجل لا يتنافى مع اتخاذ الأسباب المادية، فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وظيفة تشريعية، قضية الأخذ بالأسباب، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من أدائِهَا، وأخذ بكلِّ الأسبابِ المتاحةِ والممكنة، عاد قلبه مرتبطًا بالله عز وجل مطمئنًا إلى حمايته وتوفيقه؛ ولذلك عندما اقترب منه سراقة بن مالك يريد قتله لم يشعر به؛ لأنه كان مستغرقًا في مناجاة ربه عز وجل موقنًا أن الذي أمره بالهجرة لابد وأن يعصمه من شرور أعدائه، ومن هنا يتفق العلماء على أن ما حدث من سراقة معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم مِثْلُه مثل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وسط جموع المشركين.
نبدأ بما رواه البخاري عن عائشة، ورواه ابن سعدٍ عن عبد الرحمن بن عُوَين بن ساعدة، وقد شهد أبوه ساعدة العقبات الثلاث: العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية، ثم بيعة العقبة الكبرى والأخيرة، وروى هذا الابن عن جمع من الصحابة، قال: "إن المسلمين بالمدينة لمَّا سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وتوَكَّفُوا قدومه -أي: استشعروا خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيأتي إليهم في المدينة المنورة، عندما استشعروا ذلك كانوا يخرجون إذا صلوا الصبح إلى ظاهرة الحرة، ينتظرونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال، ويؤذيهم حَرُّ الظهيرة، فإذا لم يجدوا ظلًّا دخلوا، وذلك في أيام حارة, حتى كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلوا البيوت، فأوفى –أي: طلع- رجلٌ من اليهود على أُطْم من آطامهم لأمر ينظر إليه, فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصر بأصحابه مبيضين -أي: يلبسون ملابس بيضاء- يلوح بهم -أي: يظهرهم- السراب -والسراب هو ما يراه الإنسان نصف النهار بسبب شدة الحر كأنه ماء- فلم يملك اليهودي أن صرخ بأعلى صوته قائلًا: يا بني قيلة -وقيلة هذه هي اسم الجدة الكبرى للأنصار جميعًا أوسهم وخزرجهم؛ ولهذا ينسبون جميعًا إليها- وفي لفظ: يا معشر العرب- هذا جدكم -وفي لفظ آخر: هذا صاحبكم- الذي تنتظرون قد جاء، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقَّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، وذلك يوم الاثنين لشهر ربيع الأول، فخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه، وقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك".
وفي رواية: "فلما رأوا أبا بكر ينحاز له عن الظل؛ عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعدل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين حتى نزل بهم علو المدينة بقباء, في بني عمرو بن عوف, على كلثوم بن الهدب، قيل: وكان يومئذ مشركًا، وقيل: إنما نزل على سعد بن خيثمة، والأول أرجح عند الثقات من العلماء".
وروى الطبراني عن جابر بن سمرة قال: "لما سأل أهلُ قباء النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يبني لهم مسجدًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليقم بعضكم فيركب الناقة، فقام أبو بكرt فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع، فقام عمرt فركبها فحركها، فلم تنبعث فرجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه مرة أخرى: ليقم بعضكم فيركب الناقة، فقام علي t فلما وضع رجله في غرس الركاب، وثبت به قال صلى الله عليه وسلم: أرخِ زمامها، وابنوا على مدارها؛ فإنها مأمورة)).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يَهْصِرَهَا، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أعطني أكْفِك. فيقول صلى الله عليه وسلم: ((لا، خذ مثله)) حتى أسسه.