مدخل إلى عدد غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم
اختلف العلماء في عدد غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم التي غزا فيها بنفسه، فمنهم من قال إنها سبع وعشرون، وقِيل: تسع وعشرون، وقيل: ست وعشرون، ومن قال بذلك جعل غزوة خيبر ووادي القرى غزوة واحدة. وقِيل: خمس وعشرون.
وروى مسلم بسنده قال: قاتل صلى الله عليه وسلم في ثماني غزوات، قال النووي، لعل بريدة أسقط غزوة الفتح، ويكون مذهبه أنها فتحت صلحًا كما قال الشافعي وموافقوه، والتوجيه الأول أقعد؛ لأن ذو القرد موضع قرب المدينة أغاروا به على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فغزاهم.
قال الحافظ أبو العباس الحراني: لا يفهم من قوله: أنه صلى الله عليه وسلم قاتل في كذا وكذا أنه قاتل بنفسه، كما فهمه بعض الطلبة ممن لا اطلاع له على أحواله صلى الله عليه وسلم ولا يُعلم أنه قاتل بنفسه في غزوة إلا في أحد فقط، قال: ولا يُعلم أنه ضرب أحدًا بيده إلا أبيّ بن خلف ضربه بحربة في يده.
قلت: وعلى ما ذكره يكون المراد بقولهم: قاتل في كذا وكذا: أنه صلى الله عليه وسلم وقع بينه وبين عدوه في هذه الغزوات قتال قاتلت فيها جيوشه بحضرته صلى الله عليه وسلم بخلاف بقية الغزوات، فإنه لم يقع فيها قتال أصلًا، لكن نقل الحافظ في الفتح عن ابن عقبة أنه قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثماني غزوات، ورجعت نسخة صحيحة في (مغازي ابن عقبة) ونصه: "ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها: قاتل في بدر..." إلى آخر ما ذكر، ثم قال: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة لم يكن فيها قتال، ولم يذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم قاتل بنفسه.
والغزوات الكبار الأمهات سبع: بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، والفتح، وحنين، وتبوك.
وفي شأن هذه الغزوات نزل القرآن الكريم، ففي "بدر" كثير من سورة الأنفال، وفي "أُحد" آخر آل عمران من قوله عز وجل: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم } [آل عمران: 121]، إلى قبيل آخر السورة بيسير، وفي قصة الخندق، وقريظة صدر سورة الأحزاب، وفي بني النضير سورة الحشر، وفي قصة الحديبية وخيبر سورة الفتح، وأشير فيها إلى الفتح، وذكر الفتح أيضًا في سورة النصر، وتبوك في سورة براءة، وجُرح منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد فقط، وقاتلت معه الملائكة منها: في بدر، وحنين، وأحد على خلاف في الثالثة، كما سيأتي عند الحديث عن هذه الغزوة، ونزلت الملائكة يوم الخندق فزلزلوا المشركين وهزموهم، ورمى بالحصباء في وجوه المشركين فهربوا، فكان الفتح في غزوتين: بدر وحنين، وقاتل بالمنجنيق في غزوة واحدة وهي: الطائف، وتحصن بالخندق في واحدة وهي: الأحزاب، أشار به عليه سلمان الفارسي.
أول من صنف في المغازي: عروة بن الزبير أحد أئمة التابعين، ثم تلاه تلميذاه: موسى بن عقبة، ومحمد بن شهاب الزهري، ونحن نتحدث عن أوائل المؤلفين في السيرة النبوية المباركة، الإمام مالك -رحمه الله- يقول: "مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي"، والسهيلي: "إن مغازي الزهري أول ما صنف في الإسلام"، والأمر ليس كذلك، وأجمع الثلاثة، وأشهرها مغازي أبي بكر محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، مولاهم المدني نزيل العراقي -رحمه الله- وقد تكلم فيه جماعة، وأثنى عليه آخرون، والمعتمد أنه صدوق لا يدلس، وإذا صرح بالتحديث فهو حسن الحديث.
والمراد بالمغازي: ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، أو بجيش من قبله، وقصدهم أعم من أن يكون إلى بلادهم، أو إلى الأماكن التي حلوها حتى دخل مثل أحد والخندق، ويأتي بعد هذا حديثٌ عن الفترات السابقة على بدر الكبرى، والقتال الذي بدأ بعد أن أذن الله عز وجل فيه قبل أن تقع بدر الكبرى.
تمثلت أولى حركات الجهاد في غزواتٍ وسرايا، اتجهت إلى مواقع غربي المدينة، واستهدفت ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تهديد طريق تجارة قريش إلى الشام، وهي ضربة خطيرة لاقتصاد مكة التجاري.
الأمر الثاني: عقد المحالفات والموادعات مع القبائل التي تسكن المنطقة؛ لضمان تعاونها، أو حيادها على الأقل في الصراع بين المسلمين وقريش، وهذه تعتبر خطوة هامة ونجاحًا عظيمًا للمسلمين؛ لأن هناك تحالفات بين هذه القبائل وقريش سمَّاها القرآن الكريم بـ"الإيلاف"، فضلًا عن وحدة العقيدة بين هذه القبائل وبين قريش، واشتراك الجميع في معاداة الإسلام.
الأمر الثالث: إبراز قوة المسلمين في المدينة أمام اليهود وبقايا المشركين، فالمسلمون صاروا لا يقتصرون على السيادة في المدينة وحدها، بل يتحركون لفرض سيطرتهم على أطرافها وما حولها من القبائل، ويؤثرون في مصالحها وعلاقاتها.
وأُولى الغزوات التي قامت لتحقيق هذه الأهداف، هي:
غزوة الأبواء: وتسمى أيضًا: بغزوة (ودّان)، وهما موقعان متجاوران بينهما ستة أميال أو ثمانية، والأبواء تبعد عن المدينة نحو أربعة وعشرين ميلًا، ولم يقع قتال في هذه الغزوة، بل تمت موادعة بني ضمرة من كنانة، وكانت هذه الغزوة في الثاني عشر من شهر صفر سنة اثنتين من الهجرة، وقد عاد الجيش إلى المدينة المنورة بعد أن مكث خارجها إلى بداية شهر ربيع الأول حسبما يروي المدائني، وكما جاء في (تاريخ خليفة بن خياط).
ويذكر عروة بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية من الأبواء تضم ستين رجلًا بقيادة عبيدة بن الحارث، ويذكر ابن إسحاق أن السرية أرسلت إلى سيف البحر بعد العودة إلى المدينة، وأن ثمة سرية أخرى من ثلاثين رجلًا بقيادة حمزة بن عبد المطلب، اتجهت إلى سيف البحر أيضًا في نفس الوقت للتعرض إلى قافلة قرشية، لكن السريتين لم تشتبكا مع القرشيين في قتال، فقد حالت القبائل الموادعة للطرفين دون ذلك في سرية حمزة، وجرى تراشق بالسهام فقط بين سرية عبيدة والقرشيين، كما جاء في (سيرة ابن هشام)، وفي (تاريخ خليفة بن خياط) ، وليس من شك في أن السريتين استهدفتا تهديد تجارة قريش بالدرجة الأولى، وهو تحذير أولي لقريش بأن تجارتها أصبحت في خطر ما لم تغير موقفها المتعنت من الإسلام.
وفي ربيع الثاني استمر المسلمون في حملاتهم باتجاه الطريق التجاري، فكانت غزوة بُواط إلى رضوى قرب ينبع في مائتي مقاتل؛ لاعتراض قافلة تجارية قرشية.
ثم غزوة العشيرة: بينبع في جمادى الأولى، ولم يقع قتال في رضوى، والعشيرة، ولكن جرت موادعة بين مدلج في العشيرة، وقد تعرض كرز بن جابر الفهري في جمادي الآخرة في أعقاب العشيرة إلى أطراف المدينة، ونهب بعض الإبل والمواشي، فطارده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صفوان من نواحي بدر، فسميت الغزوة ببدر الأولى، وقد تمكن كرز من الإفلات في حملة المطاردة هذه، لكن الحادث أكد للمسلمين ضرورة تأمين العلاقة مع جيران المدينة، فاستمرت الحملات، ولم يقتصر تعرض المسلمين لتجارة قريش مع الشام، بل تعرضوا لطريق تجارتها أيضًا مع اليمن، فأرسلت سرية عبد الله بن جحش في ثمانية من المهاجرين إلى نخلة جنوبي مكة في آخر رجب؛ للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش، لكنهم تعرضوا لقافلة تجارية لقريش فظفروا بها، وقتلوا قائدها، وأسروا اثنين من رجالها، وعادوا بها إلى المدينة كما يروي صاحب (تاريخ خليفة بن خياط).
ونظرًا لأن هذه الحادثة قد وقعت في الشهر الحرام، فقد أثار المشركون ضجة كبرى بدعوى أن المسلمين ينتهكون حرمة الأشهر الحرم، وكان لذلك وقع خطير في الحواضر والبوادي، فهو خرق لعرف عام ساد الجزيرة العربية مدة طويلة قبل الإسلام، والواقع أن عبد الله بن جحش كان يدرك خطورة الأمر، فقد اختار قرار القتال بعد مشاورة لأصحابه، ولما رجع إلى المدينة، وأراد تسليم الغنائم أبى الرسول صلى الله عليه وسلم تسلمها، وقال: ((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام))، وانتشرت داعية قريش، أن محمد صلى الله عليه وسلم قد استحل الشهر الحرام، وسفك وأصحابه فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، ثم نزلت آيات من كتاب الله عز وجل توضح سلامة موقف المسلمين، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم وفادى الأسيرين من قريش.
والآيات هي: قول الله عز وجل: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 217]، وقد بينت هذه الآيات أن ما فعلته قريش من فتنة المسلمين عن دينهم، وإخراجهم من مكة أكبر من قتال المسلمين في الشهر الحرام، ومطلع الآية يقرر حرمة الأشهر الحرم.
وقد تعرض الشبهة للبعض، فيظن أن تعرض المسلمين لقوافل المشركين، يشبه أعمال قطاع الطرق، فرد هذه الشبهة بأن المسلمين كانوا في حالة حرب مع قريش، فإضعافها اقتصاديًّا أو بشريًّا من مقتضيات حالة الحرب، هذا فضلًا عمَّا قامت به قريش من مصادرة أموال المسلمين عند هجرتهم من مكة، ومازالت حالة الحرب حتى الوقت الحاضر تسمح بضرب الطاقات البشرية والاقتصادية للعدو.
لقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ستة أشهر في المدينة بعد الهجرة قبل أن يقوم بأي نشاط عسكري، وقد كان مشغولًا خلال تلك الفترة بتأسيس الدولة الإسلامية، وترتيب أوضاع المسلمين في موطنهم الجديد، ولم يغفل أمر تدريب المسلمين على فنون القتال، وحثهم على تعلم الرمي، وأثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي))، قالها صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، وأول عمل عسكري قام به صلى الله عليه وسلم كانت السرية التي عقد لواءها لعمه حمزة بن عبد المطلب، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلًا من المهاجرين، وخرج حمزة يعترض عير قريش التي جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل ابن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر -أي: ساحل البحر من ناحية العَيْصِ- فالتقوا حتى اصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفًا للفريقين جميعًا إلى هؤلاء مرة وهؤلاء مرة، حتى حجز بينهم ولم يقتتلوا، فتوجه أبو جهل وأصحابه إلى مكة، وانصرف حمزة بن عبد المطلب في أصحابه إلى المدينة، كما يذكر ابن سعد في (الطبقات الكبرى).