موقف بني عبد المطّلب مِن دعوته -صلى الله عليه وسلم.
عزيزي الدّارس، روى الإمام أحمد، عن عليّ بن أبي طالب قال: ((لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}، جمَع النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل بيْته؛ فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا. فقال لهم: مَن يَضمن عنِّي ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنّة، ويكون خليفتي في أهلي؟ فقال رجل: يا رسول الله، أنت كنت بحراً. من يقوم بهذا؟ فعرض ذلك على أهل بيته. فقال علي: أنا)).
وذكر البلاذري: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في هذا الاجتماع: ((الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكّلعليه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. ثم قال: إنّ الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتُكم، ولو غررت الناس ما غررْتُكم. والله الذي لا إله إلا هو، إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة. والله لتموتنّ كما تنامون، ولتُبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزونّ بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً؛ وإنها لجنّة أبداً أو نار أبداً. وإنكم لأوّل مَن أنذر، ومثلي ومثلكم كمثَل رجل رأى العدوّ فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتفيا صباحاه! فقال أبو طالب: ما أحبّ إلينا معاونتك، ومرافدتك، وأقبلنا لنصحك، وأشدّ تصديقاً لحديثك! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون. وإنما أنا أحدهم، غير أني والله أسرعهم إلى ما تحبّ. فامْضِ لما أُمِرتَ به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أنّي لا أجد نفسي تطوع إلى فراق دين عبد المطّلب. وتكلّم القوم كلاماً ليّناً، غير أبي لهب، فإنه قال: يا بني عبد المطلب، هذه والله السوءة. خذوا على يديْه، قبل أن يأخذ على يديه غيركم. فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم، وإن منعتموه قُتلتم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنّه ما بقينا. ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً مِن العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم؛ فإني قد جئتُكم بأمْر الدنيا والآخرة)).
وبعد هاتيْن المواجهتيْن: العامة -مع كافة قريش-، والخاصة مع بني هاشم وبني المطلب، بدأت المفاصلة بين حزب الإيمان وحزب الشيطان. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- بدأ بتنفيذ الأمر الإلهي، ويجهر بالدعوة إلى الله تعالى
قال ابن إسحاق: فلما بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه، وصدع بالإسلام، لم يبعد منه قومه ولم يردّوا عليه، حتى عاب آلهتهم، فأعظموه، وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته؛ فحدب عليه عمه أبو طالب، وأكثرت قريش ذكْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحضّ بعضهم بعضاً عليه.
قال في "المواهب": فلم يبعد منه قومه ولم يردّوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها؛ وكان ذلك سنة أربعوكان عدد رجال بني عبد المطلب الذين حضروا هذه الدعوة أكثر مِن أربعين بقليل.

أبو لهب وموقفه مِن الرسول -صلى الله عليه وسلم.

كان أبو لهب حالة شاذّة في المجتمعات القبليّة العربيّة؛ إذ كانتالعصبية هي التي تحرِّكهم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً".
لكن أبا لهب وقف أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته, ولعلّه أوّل مَن تلفّظ بكلمة إساءة في وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لأنه لما انتهى -صلى الله عليه وسلم- مِن توجيه الخطاب لكافّة بطون قريش، لم يُجب على كلامه إلاأبو لهب. إذ قال له "تباً لك، ألهذا جمَعْتَنا؟"، فأنزل الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}.
ولمّا نزلت هذه السورة، جاءت العوراء -أم جميل، حمالة الحطب-، فقال أبو بكر: ((يا رسول الله، لو تنحَّيْت عنها؛ فإنها امرأة بذيئة اللسان. قال سيُحال بيني وبينها. فقالت: يا أبا بكر هجانا صاحبك. قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فاندفعت راجعة. فقال: أبو بكر: يا رسول الله ما رأتكقال: كان بيني وبينها ملَك سترني بجناحه حتى ذهبت)). وفي بعض الروايات: أنها جاءت مُوَلْوِلة تقول: مذمَّماً أبيْنا، ودينَه قليْنا، وأمره عصيْنا.
وهي تريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقرأ قول الله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً}.
وعن أبي هريرة: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((انظروا قريشاً كيف يَصْرف الله عني شتمهم ولعْنهم. يشتمونمذمَّماً، ويلعنون مذمَّماً، وأنا محمد))، صحيح البخاري.
المراجع والمصادر



  1. الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، دار الكتب العلمية 2006م.
  2. السهيلي: الروض الأنف، تحقيق: مجدي منصور سيد الشورى، دار الكتب العلمية 1997م.
  3. المحب الطبري: الرياض النضرة في مناقب العشرة، دار الكتب العلمية –بيروت 1405هـ.
  4. سيد الناس: عيون الأثر، ابن الشركة العربية للطباعة والنشر 1959م.
  5. محمد بن يوسف الصالحي: سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، مجمع البحوث الإسلامية –القاهرة 1973م.
  6. ناصر الدين الألباني: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، المكتب الإسلامي 1952م.
  7. القسطلاني: شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية، المطبعة الأزهرية 1910م.
  8. ابن سعد: الطبقات الكبرى، دار صادر للطباعة والنشر 1998م.
  9. عبد السلام هارون: تهذيب سيرة ابن هشام– دار الكتب العلمية – 1996م.
  10. صفي الرحمن المباركفوي: الرحيق المختوم، دار الشرق العربي 2003م.
  11. الأزرقي: تاريخ مكة وما جاء فيها من الآثار، مكتبة خياط 1970م.
  12. الذهبي: سير أعلام النبلاء، دار الكتب العلمية، 2004م.
  13. محمد أبو شهبة: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة : دار القلم 1996م.
  14. عبد العزيز سالم: تاريخ العرب قبل الإسلام، مؤسسة الثقافة الجامعية 1973م.
  15. الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، دار الكتب العلمية 1980م.
  16. -محمد سعيد البوطي: فقه السيرة، دار الفكر، الطبعة العاشرة 2002م. 4