الإمام أحمد بن حنبل من أشهر الدعاة إلى الله
مولده، ونسبه:
ولد أحمد في المشهور المعروف في ربيع الأول من سنة 164 من الهجرة النبوية، وإذا كانت ولادته قد علم تاريخها من غير ظن أو مجال للشك فقد علم أيضًا تاريخ وفاته من غير شك، فقد تطابقت الأخبار على أنه توفي لاثنتي عشر ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكانت جنازته يوم الجمعة، وقد ولد أحمد ببغداد، وقد جاءت أمه حاملًا به من مرو التي كان بها أبوه، وقيل: إنها ولدته بمرو، ولكن الصحيح أنه ولد ببغداد، وحملت به في مرو.
ونسبه عربي، فهو شيباني في نسبه لأبيه وأمه، أبوه شيباني، وأمه كذلك؛ فلم يكن أعجميًّا ولا هجينًا، بل كان عربيًّا خالصًا.
كانت أسرة أحمد من شيبان، وأصل مقامها بالبصرة، وأبوه محمد كان جنديًّا، وقد وصفه ابن الجوزي عن الأصمعي بأنه كان قائدًا، وقد قال عن أبي بكر الأعين: "سمعت الأصمعي يقول: أبو عبد الله أحمد بن حنبل من ذهل، وكان أبوه قائدًا، وذهل هو جد شيبان الذهلي، وقد قال ابن الجزري: كان أبوه في زي الغزاة، ويظهر أن أسرته كانت بعد انتقالها إلى بغداد تعمل للخلافة العباسية، ولم ينقطع اتصالها بها، وإن لم يكن منها ولاة، فإنه يروى أن عم أحمد كان يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد؛ ليعلم بها الخليفة إذا كان غائبًا عنها، وكان أحمد يتورع عن المشاركة في ذلك منذ صباه، حتى إنه يروى أن بعض الولاة قال: أبطأت علي أخبار بغداد، فوجهت إلى عم أحمد بن حنبل: لم تصل إلينا الأخبار اليوم، وكنت أريد أن أحررها وأوصلها للخليفة، فقال: قد بعثت بها مع أحمد بن أخي، ثم أحضر أحمد، وهو غلام، فقال: أليس قد بعثت معك الأخبار؟ قال: نعم، قال: فلأي شيء لم توصلها؟ قال: بينا أنا كنت أرفع تلك الأخبار رميت بها في الماء، فجعل الوالي يسترجع، ويقول: هذا غلام يتورع فكيف نحن؟
ولقد كان لنسبه، وفقره غير المدقع أثرهما عندما ألقيت الدنيا بين يديه فألقاها بعيدًا عن مواضع أقدامه، ونحاها بنفس نزيهة، وقلب تقي، كان يهدي إليه المتوكل بدر الأموال فيردها في تواضع كريم.
وكان متطامن النفس محسًّا بإحساس الناس، ما نزل إلى مباذل الناس، وما تسامى عليهم بنسبه الرفيع، حتى لم يلاحظ عليه قط فخر بنسبه العربي، ولقد قال كتاب سيرته: إنه ما رؤي الفقير عزيزًا في مجلس كما كان في مجلس أحمد >، وهذه الخصال الكريمة قد نبعت من ذلك النبع الكريم الذي امتزج فيه شرف النسب بقناعة الفقر، وبسمو الروح، وفضل التقى.
تربيته:
نشأ الإمام أحمد ببغداد، وتربى بها تربيته الأولى، وكانت تموج بالناس الذين اختلفت مشاربهم، وتخالفت مآربهم، وزخرت بأنواع المعارف والفنون فيها القراء، والمحدثون، والمتصوفة، وعلماء اللغة، والفلاسفة الحكماء؛ فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي، وقد توافر فيها ما توافر في حواضر العالم من تنوع المسالك، وتعدد السبل، وتنازع المشارب، ومختلف العلوم.
وقد اختارت أسرة أحمد له منذ صباه أن يكون متعلمًا في الدين يعكف عليه، ويتخذ له كل العلوم الممهدة له من علم باللغة، والحديث، والقرآن، ومآثر الصحابة، والتابعين، وأحوال الرسول وسيرته، وسيرة أوليائه الأقربين الذين اختصوا بطول الصحبة، وفقه الدين، ولب اليقين، واتفقت هذه التربية، أو هذا التوجيه مع نزوعه النفسي، وما كانت تصبو إليه همته من غايات، لقد وجهته أسرته إلى القرآن الكريم منذ نشأته الأولى، فاستحفظه، وظهرت عليه الألمعية مع الأمانة والتقى، فكان الغلامَ التقي بين الغلمان، كما صار من بعد الشاب التقي، ثم الكهل الذي أبلى البلاء الأكبر في الإسلام، واحتمل المكاره في سبيل ما يعتقد، أو ما يراه تهجمًا فيما ليس به علم، حتى إذا أتم حفظ القرآن وعلم اللغة اتجه إلى الديوان ليمرن على التحرير والكتابة، ولقد قال في ذلك: "كنت، وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان، وأنا ابن أربع عشرة سنة".
ولقد اختار أحمد في صدر حياته رجال الحديث، ومسلكهم فاتجه إليهم أول اتجاهه، واستمر أحمد على الرحلة في طلب العلم، حتى بعد أن اكتملت رجولته،ونضج علمه، ولقد وعد الشافعي عند آخر لقاء بينهما أن يلحقه إلى مصر، ولكنه لم ينجز ما وعد، فقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال: "وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم علي مصر فلم يقدم".
قال ابن أبي حاتم: "يشبه أن تكون خفة ذات اليد منعته أن يفي بالعدة".
طوف أحمد في الأقاليم الإسلامية طالبًا للحديث: لا يستكثر الكثير، ولا يني عن الكد واللغوب، يحمل حقائب كتبه على ظهره، حتى لقد رآه بعض عارفيه في إحدى رحلاته، وقد كثر ما رواه من الأحاديث وحفظه وكتبه، فقال له معترضًا مستكثرًا ما حفظ وما كتب وما روى: مرة إلى الكوفة، ومرة إلى البصرة إلى متى؟.
ويجب أن نقرر أن أحمد كان يطلب فيما يطلب علم الفقه والاستنباط مع الرواية، وتلقى ذلك عن الشافعي وغيره، بل إننا لننتهي إلى أن نقبل ما قيل عنه من أنه كان يحفظ كتب أهل الرأي، ولكن لا يأخذ بها أو يعرض عنها، ولم يلتفت إليها، فقد قال تلميذه الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها، ثم لم يلتفت إليها.
ويغلب على الظن أنه لم يطلب علم الكلام، ولا العلوم الفلسفية، التي كثرت ترجمتها في حياته؛ لأنه لم يجد شيئًا من العلم جديرًا بالعناية غير الحديث والكتاب، وما هو كالآلة لفهم كل العلوم الدينية وهو العلوم العربية.
ولكن لا نستطيع أن نقول: إن أحمد لم يطلع على بعض آراء الفرق المختلفة كالخوارج، والشيعة، والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، بل إن الظن كل الظن أن يكون أحمد ألم بهذه الفرق، وحياته وأخباره تمهد لذلك ولا تنافيه؛ ذلك لأنه رحل إلى البصرة خمس مرات لطلب الحديث، وكانت إقامته تمتد إلى ستة أشهر أو تزيد، والبصرة كانت موطن الاعتزال، وفي بدايتها كان الخوارج يرابطون ويغيرون، وكانت الجهمية والمرجئة لهم طوائف فيها وفي الكوفة، والعالم الباحث يصل إليه علم كثير ممن يجاورهم ويخالطهم ويتصل بهم.
ونعلم أيضًا أن أحمد كان يعلم الفارسية ويتكلم بها أحيانًا إذا كان مخاطبه لا يحسن العربية، ولا يستطيع الإفهام بها، والخبر بمعرفة أحمد بالفارسية صحيح، فإنه يروى كما جاء في (تاريخ الذهبي): أنه قدم عليه من خراسان ابن خالته، ونزل عنده، ولما قدم له الطعام كان أحمد يسأله عن خراسان وأهلها، وما بقي من ذوي أحمد بها، وربما استعجم القول على الضيف، فيكلمه أحمد بالفارسية.
ويظهر أنه كان له مجلسان في الدرس والتحديث؛ أحدهما في منزله يحدث فيه خاصة تلاميذه وأولاده، والثاني في المسجد يحضر إليه العامة والتلاميذ، وكان يذكر أن درسه يبلغ من يحضره خمسة آلاف، وأن خمسمائة فقط هم الذين يكتبون، أي: نحو عُشر الحاضرين الذين ينقلون عنه الحديث ويروونه، وهم الخاصة من تلاميذه والمستمعين إليه، وخاصة الخاصة من تلاميذه هم الذين كانوا يذهبون إلى بيته ويتلقون عنه مع أولاده وأهله.
ويلاحظ في درس أحمد ثلاثة أمور جعلت له أثرًا في النفوس جيدًا، وهذه الأمور هي:
أولًا: كان يسود مجلسه الوقار والسكينة مع تواضع واطمئنان نفسي، ولم يكن الوقار في مجلس علمه وحده، كان في كل مجالسه لا يمزح ولا يلهو؛ لأن اللهو في جملته باطل؛ ولأن كل مزحة مجة من العقل، وقد علم مخالطوه منه ذلك، فكانوا لا يمزحون في حضرته قط في مجلس علم أو في غير مجلس علم، بل إن شيوخه علموا ذلك فكانوا هم أيضًا لا يمزحون في حضرته.
فقد روى ابن نعيم عن خلف بن سالم أنه قال: "كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مستمليه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هنا حتى لا أمزح".
ثاني الأمور التي كانت تلاحظ في درسه: أنه كان لا يلقي الدرس من غير طلب، بل يسأل عن الأحاديث المروية في الموضوع، فيستحضر الكتب التي دون فيها تلك الأحاديث، فهو أولًا: ما كان يقول حتى يطلب منه، وثانيًا: إذا كان قال حديثًا نبويًّا لا يقوله إلا من كتاب حرصًا على جودة النقل، وإبعادًا لمظنة الخطأ ما أمكن، وفي الأحوال النادرة جدًّا كان يقول الحديث من غير رجوع إلى كتاب، حتى إنهم أحصوا المرات التي قال فيها الحديث من غير كتاب في مدى تحديثه، فكانت عدتها لا تتجاوز مائة حديث في حياة مديدة في الرواية والنقل، مكث فيها يفتي ويحدث ما يقرب الأربعين عامًا.
وثالث الأمور التي كانت تلاحظ على مجالس أحمد في دروسه: أنها كانت من حيث موضوعها قسمين:
أحدهما: رواية الحديث ونقله، وهذه يمليها على تلاميذه من كتاب كما رأيت، ولا يعتمد على حفظه إلا نادرًا.
وثانيهما: فتاويه الفقهية التي كان يضطر إلى استنباطها، وهذه لا يسمح لتلاميذه أن يدونوها، ولا يسمح لهم أن ينقلوها عنه؛ إذ إنه ما كان يستجيز التدوين، إلا لأحاديث رسول الله ويرى أن علم الدين وحده هو علم الكتاب والسنة، وأن من البدع تدوين آراء الناس في الدين بجوار كتاب الله وسنه رسول الله
وكان أبغض الأشياء إليه أن يرى كتابًا قد دونت فيه فتوى له >، وكان يكره من أصحابه أن ينقلوا عنه فتاويه، وربما أنكر نسبتها إليه؛ لأنه لم يحفظ ما قال، ولم يقصد إلى حفظه؛ لأن ذلك غير جائز في نظره.
المحنة، وأسبابها، وأدوارها:
سبب المحنة دعوة المأمون للفقهاء والمحدثين أن يقولوا مقالته في خلق القرآن، فيقولوا: إن القرآن مخلوق مُحدَث كما يقول أصحابه من المعتزلة الذين اختار منهم وزراءه وصفوته الذين جعلهم بمنزلة نفسه، وجعل منهم شعاره ودثاره، والذي يتأكده العلماء أن أحمد لم يوافق المأمون في رأيه، ولم ينطق بمثل مقالته، وأنه نزل به الأذى الشديد لذلك، وبدأ في عصر المأمون، وتوالى في عصر المعتصم، والواثق بوصية من المأمون واتباعًا لمسلكه.
وإذا كان سبب المحنة هو أن المأمون أراد أن يحمل أحمد على أن يقول مقالته في خلق القرآن، فيروى أن أول من قال: إن القرآن مخلوق هو الجعد بن درهم في العصر الأموي، فقتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالكوفة، وقد أتى به مشدودًا في الوثاق عند صلاة العيد، فصلى خالد وخطب، ثم قال آخر خطبته: اذهبوا، وضحوا بضحاياكم تقبل، فإني أريد أن أضحي بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى تكليمًا، ولا اتخذ الله إبراهيم خليلًا، تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا، ثم نزل وقتله.
وقال مثل ذلك القول الجهم بن صفوان، وقد نفى صفة الكلام عن الله تنزيهًا له عن الحوادث وصفاتها، وحكم بذلك بأن القرآن مخلوق، وليس بقديم.
ولما جاء المعتزلة، ونفوا صفات المعاني، ثم بالغوا فأنكروا أن يكون الله متكلمًا، وما ورد في القرآن من أن الله كلم موسى تكليمًا أولوه بأنه خلق الكلام في الشجرة، فهم لا يصفون الله بأنه متكلم، ولكنهم يعتقدون أن الله تعالى يخلق الكلام كما يخلق كل شيء، وعلى هذا الاعتقاد بنوا دعواهم أن القرآن مخلوق لله تعالى.
ولقد خاض المعتزلة في حديث خلق القرآن خوضًا شديدًا في العصر العباسي، وشاركهم بعض قليل من الفقهاء، فقد كان بشر بن غياث الموريسي من المصرين على ذلك القول، وقد نهاه أبو يوسف أستاذه وصاحب أبي حنيفة فلم ينتهِ فطرده من مجلسه، وابتدأ خوض المعتزلة يشتد في عهد الرشيد، وأخذوا يدعون الناس إلى ذلك، ولكن الرشيد لم يكن ممن يشجعون الخوض في العقائد، والجدل فيها على ضوء أقوال الفلاسفة، ولذلك لم يشجع المعتزلة على ذلك الخوض، بل يروى أنه حبس طائفة من المجادلين من هؤلاء المعتزلة، ولما بلغته مقالة بشر بن غياث قال: وإن أظفرني الله به أقتله، فظل بشر مستخفيًا طول خلافة الرشيد، فلما جاء المأمون أحاط به المعتزلة، وكان جُلُّ حاشيته من رجالهم، وأدناهم هو إليه، وقربهم زلفًا نحوه، وأكرمهم أبلغ الإكرام، حتى يروى أنه كان إذا دخل عليه أبو هشام الفوطي من أئمة المعتزلة تحرك له حتى يكاد يقوم، ولم يكن يفعل ذلك مع أحد من الناس، والسبب في ميل المأمون للمعتزلة ذلك الميل أنه كان تلميذًا لأبي الهذيل العلاف في الأديان والمقالات، وأبو هذيل من رءوس المعتزلة.
ولما عقد المأمون المجالس للمناظرات والمناقشات في المقالات والنحل كانوا الفرسان السابقين والبارزين على الخصوم؛ لما اختصوا به من دراسات عقلية واسعة، ولذلك كان لهم الأثر الكبير في نفس المأمون يجتبي منهم من يشاء لصحبته، ويختار منهم من يريد لوزارته، وخص منهم أحمد بن أبي دؤاد بالرعاية والعطف والتقريب، حتى إنه أوصى أخاه المعتصم بإشراكه معه في أمره، وقال له في وصيته: "وأبو عبد الله بن أبي دؤاد فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع لذلك منك".
فلما أحس المعتزلة بهذه المنزلة زينوا له إعلان قوله في خلق القرآن نشرًا لمذهبهم، وليكتسبوا بذلك إجلال العامة واحترامهم، وصادف ذلك هوى في نفسه، فأعلن ذلك سنة 212 هجرية، وناظر من يغشى مجلس مناظرته في هذا الشأن، وأدلى فيها بحججه وأدلته، وترك الناس أحرارًا في عقائدهم لا يحملون على فكرة لا يرونها، ولا عقيدة لا يستسيغون الخوض في شأنها.
ولكن في سنة 218 هجرية -وهي السنة التي توفي فيها- بدا له أن يدعو الناس بقوة السلطان إلى اعتناق فكرة خلق القرآن، وأراد أن يحملهم على ذلك قهرًا، وابتدأ ذلك بإرسال كتبه وهو بالرق إلى إسحاق بن إبراهيم نائبه في بغداد لامتحان الفقهاء والمحدثين ليحملهم على أن يقولوا: إن القرآن مخلوق.
ويظهر أنه ابتدأ يحمل الذين لهم شأن في مناصب الدولة، والذين يتصلون بالحكام بأي نوع من أنواع الاتصال، ولو كانوا شهودًا في نزاع يفصل فيه القضاء، فقد جاء في آخر أول كتاب أرسله إلى نائبه في بغداد: فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق فيمن قلده واستحفظه من رعيته لمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع عن توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاه أهل عمل في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد.
وترى من هذا أنه لم توضع عقوبة لمن لم يعتقد هذه العقيدة سوى الحرمان من مناصب الدولة أو عدم سماع شهادته إن كان شاهدًا، ولم يعد كتابه الثاني ذلك، فأحضر إسحاق بن إبراهيم القضاة واختبرهم، ولم يكتفِ بذلك، بل أحضر المحدِّثين أيضًا وكل من تصدَّى للفتوى والتعليم والإرشاد وامتحنهم، وأرسل إجابتهم عن مسألته في خلق القرآن إلى المأمون، فأرسل هذا كتابًا يبين سخف هذه الإجابات في نظره ويجرح المجيبين ويسلقهم بقارص القول وعنيف الكلام، ثم ذكر في هذا الكتاب عقوبات لمن لم يقل مقالته؛ إذ أمر بحمل من لم يقل إليه موثقًا، وقال: "من يرجع عن شركه ممن سميت لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره أمير المؤمنين، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا، ولم يقل: إن القرآن مخلوق بعد بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، وتسليمهم إلى من يؤمن بتسليمهم لينصهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعًا على السيف إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله".
وترى من هذا كيف ترقى من عقوبة الحرمان من المناصب، وقبول الشهادة إلى الإنذار بعقوبة الإعدام.
وقد سارع إسحاق بن إبراهيم إلى تنفيذ رغبتهم، فأحضر المحدثين والفقهاء والمفتين وفيهم أحمد بن حنبل، وأنذرهم بالعقوبة الصارمة، والعذاب العتيد إن لم يقروا بما يطلب منهم، وينطقوا بما سئلوا أن ينطقوا به، ويحكموا بالحكم الذي ارتآه المأمون من غير تردد أو مراجعة، فنطقوا جميعًا بما طلب منهم، وأعلنوا اعتناق ذلك المذهب، ولكن أربعة ربط الله على قلوبهم، واطمأنوا إلى حكم الله، وآثروا الباقية على الفانية، لم يرضوا بالدنية فيما اعتقدوا، فأصروا على موقفهم إصرارًا جريئًا، وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجادة، فشُدوا في الوثاق، وكبلوا بالحديد، وباتوا ليلتهم مصفدين في الأغلال، فلما كان الغد أجاب سجادة إسحاق فيما يدعوه إليه فخلوا عنه، وفكوا قيوده، واستمر الباقون على حالهم.
وفي اليوم التالي أعيد السؤال عليهم، وطلب الجواب إليهم، فخارت نفس القواريري، وأجابهم إلى ما طلبوا، ففكوا قيوده، وبقي اثنان الله معهما، فسيقا في الحديد ليلتقيا بالمأمون في طرسوس، وقد استشهد ابن نوح في الطريق، والذين أجابوا طلب منهم أن يواجهوا المأمون أحرارًا، وقدموا كفلاء بأنفسهم ليوافوه بطرسوس كأخويهم.
وبينا هم في الطريق نعى الناعي المأمون، ولكنه -عفا الله عنه- لم يودع هذه الدنيا من غير أن يوصي أخاه المعتصم بالاستمساك بمذهبه في القرآن، ودعوة الناس إليه بقوة السلطان، وكأنه فهم أن تلك الفكرة التي استحوذت على رأسه دين واجب الاتباع، لا يبرأ عنقه منها من غير أن يوصي خلفه بها، فوصاه، وقد جاء في مطلع وصيته: "هذا ما أشهد عليه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين بحضرة من حضره..." إلى أن قال: "يا أبا إسحاق ادنُ مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في خلق القرآن".
ولهذه الوصية لم تنقطع المحنة بوفاة المأمون بل اتسع نطاقها، وزادت ويلاتها، وكانت شرًّا مستطيرًا على الموفقين من الزهاد والعلماء والفقهاء، والمحدثين وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، وقد بلغ البلاء أشده، والمحنة أقصاها في عهد المعتصم.
علم أحمد:
ذاع علم أحمد واشتهر، وتحدث الناس بذلك وهو حي يرزق، بل إن علمه بالحديث والأثر ذاع، وهو لا زال شابًّا يتلقى العلم، ويأخذ عن الشيوخ، حتى إن أحمد بن سعيد الرازي قال فيه وهو شاب: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله ولا أعلم بفقهه من أحمد بن حنبل.
ويقول له شيخه الشافعي: أنت أعلم بالأخبار الصحاح مني، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه كوفيًّا كان، أو مصريًّا، أو شاميًّا.
ولقد روى المزني أن الشافعي قال: ثلاثة من عجائب الزمان، عربي لا يعرب كلمة، وهو أبو ثور، وأعجمي لا يخطئ في كلمة، وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال شيئًا صدقه الكبار، وهو أحمد بن حنبل.
ويروي حرملة بن يحيى تلميذ الشافعي أنه قال: "خرجت من بغداد، وما خلفت بها أحدًا أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل".
ولقد وصفه الشافعي بالعقل مع علم الرواية، والفقه، فقد قال فيه كما روى تلميذه محمد بن الصباح: "ما رأيت أعقل من أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي".
هذه كلمات الشافعي، وهو العالم الأريب في أحمد الشاب، ولا شك أنه بعد أن تقدمت سنه وهو لم ينقطع عن طلب الفقه والحديث يومًا قد نما علمه وعقله وذاع اسمه وذكره.
وخصوصًا بعد أن ابتلي فأحسن البلاء، وصبر الصبر الجميل، ولم يئنّ، ولم يشك إلى أحد من خلق الله أذى الإنسان، ولننقل بعضًا قليلًا من شهادة معاصريه فيه، لقد قال علي بن المديني معاصره: "ليس فينا أحفظ من أبي عبد الله بن حنبل"، ويقول فيه: "أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة، وهو يزداد خيرًا".
ويقول قرينه، ومعاصره القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن شيبة، وأحمد أفقههم فيه"، ويقول فيه: "ما رأيت رجلًا أعلم بالسنة منه".
ولقد قال فيه يحيى بن معين: "والله لا نقوى على ما يقوى عليه أحمد، ولا على طريقة أحمد"، يقول فيه عبد الرحمن بن مهدي: "هذا أعلم الناس بحديث سفيان الثوري"، ويقول: "ما نظرت إلى أحمد بن حنبل إلا تذكرت به سفيان الثوري"، وسفيان الثوري فقيه أثري زاهد نزه النفس عفيف، فإن سفيان كان أبرز الآخرين في علم أحمد، وفقهه.
بعض صفات الإمام أحمد:
أولى هذه الصفات الحافظة القوية الواعية، وهي صفة عامة للمحدثين وأهل الإمامة منهم بشكل خاص، ولقد اتصف بها مالك، واتصف بها الشافعي من الفقهاء الذين تركوا ثروة من الفقه والنظر والاستنباط، وهذه الحافظة هي الأساس لكل علم ونظر، فلا بد لأهل العلم أن تكون عندهم طائفة حفظوها يبنون عليها ويستنبطون منها، وإن العلماء بالنفس في عصرنا الحاضر كما كان الناس في الغابر يردون عناصر الذكاء إلى الذاكرة المدركة والحافظة الواعية والبديهة الحاضرة التي تثير المعلومات التي حفظت في أوقاتها المناسبة، ولقد آتى الله أحمد من هذه الصفة حظًّا وفيرًا، والأخبار في ذلك متضافرة يؤيد بعضها بعضًا، فمن ذلك ما يروى عنه، فهو يقول: كنت أذاكر وكيعًا بحديث الثوري، فكان إذا صلى العشاء خرج من المسجد إلى منزله، فكنت أذاكره، فربما ذكر تسعة أحاديث أو العشرة فأحفظها، فإذا دخل قال لي أصحاب الحديث: أمل علينا، فأمليها عليهم فيكتبونها.
ولقد شهد بقوة حفظه معاصروه حتى عُدَّ أحفظهم، وحتى لقد قيل لأبي زرعة معاصره: من رأيت من المشايخ، والمحدثين أحفظ؟ قال: أحمد بن حنبل