غزوة بدر الأولى، وسرية عبد الله بن جحش
أ. غزوة بدر الأولى:
قال ابن إسحاق: ولم يقم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ حين قَدِمَ من العشيرة إلا لياليَ قلائل تبلغ العشرة، حتى أغار كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِي على صرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ واديًا يُقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ فلم يدركه، وهي غزوة بدر الأولى، كما روى ابن هشام في (السيرة النبوية).
حققت هذه الغزوات والسرايا أهداف كثيرة، ومن بينها:
الهدف الأول: أراد النبي صلى الله عليه وسلم تدريب المسلمين عمليًّا على الطرق والمسالك والأماكن التي ستصبح ميادين فعلية للقتال.
الهدف الثاني: تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من إقامة علاقات ودية، وعقد محالفات دفاعية مع بعض القبائل الصديقة لقريش، هذه التحالفات كانت لها دلالات عميقة على بعد نظره صلى الله عليه وسلم في تخطيطه لمستقبل الدعوة الإسلامية.
الهدف الثالث: تضييق الخناق على قريش، وضرب حصار اقتصادي صارم عليها، يقطع طريق تجارتها إلى الشام.
وقد حققت هذه التحركات العسكرية هدفًا آخر نفسيًّا: فقد زرعت الخوف والرعب في قلوب قريش، ولا أدل على ذلك من الأعداد الهائلة من الرجال، الذين كانوا يقومون على حراسة القوافل في ذهابها وإيابها إلى الشام ومنه.
ب. سرية عبد الله بن جحش:
هي آخر الحملات الصغيرة التي كانت قبل موقعة بدر الكبرى، ونخص هذه السرية بكلمة خاصة مفصلة؛ لما ترتب عليها من نتائج، ولطبيعتها أيضًا، فالغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، والسرايا التي أرسل على رأسها أحد أصحابه كانت وجهتها الطريق الساحلي بين مكة والمدينة، بهدف تهديد الطريق التجاري الرئيسي الذي تمر منه تجارة قريش، أما سرية عبد الله بن جحش، فقد شذت عن هذه القاعدة، فقد أُمِرت هذه السرية باستطلاع أخبار قريش من مكان قريب جدًّا من مكة، ألا وهو "وادي نخلة" بين مكة والطائف.
وهنا يقول ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن الرئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى - يعني عندما قفل ورجع من بدر الأولى- وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدًا، فلما صار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه، فإذا فيه: ((إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصُد بها قريشًا وتعلَم لنا من أخبارهم))، فلما نظر عبد الله في الكتاب، قال: "سمعًا وطاعة"، ثم قال لأصحابه: "قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشًا، حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحدٌ، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه.
ومضى عبد الله بن جحش، وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأُدْمًا وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيْسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبًا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصِّن، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه أمنوا وقالوا: "عمار لا بأس عليكم منهم"، وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: "والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فلا يمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام"، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأثر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم من عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش، وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآهم، قال: ((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام))، فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين، فيما صنعوا، وقالت قريش: "قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال"، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 217].
فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرّج الله عز وجل عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نفديكهما حتى يقدم صاحبانا -يعني: سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم". فقدم سعد وعتبة، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرًا.
وقد ترتب على هذه السرية نتائج كبيرة؛ حيث كشفت للمسلمين عن أشياء ربما كانت خافيةً عنهم، وعلى رأس ذلك موقف اليهود الذين كشفوا عن نواياهم الخبيثة، في التحريض على الحرب بين المسلمين وبين قريش، وأرادوا أن يشعلوها حربًا على المسلمين.
ونُبَيِّنَ هنا أن سرية عبد الله بن جحش هذه كانت حملة استطلاع، ورصد أخبار عن قريش، لا حملة قتالٍ أو تصدٍ لعير قريش؛ إذ لا يعقل أن يرسل النبي صلى الله عليه وسلم ثمانيةً من أصحابه؛ ليقاتلوا قريشًا في عقر دارها، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يريدهم أن يقاتلوا لكان حجمُ الحملةِ أكبر من هذا بكثير، فالهدف إذًا هو جمع المعلومات، وعندئذٍ كلما كان العدد أقل كانت الفرصة أكبر في تحقيق الهدف، والدليل على أنها ليست حملة قتال: قول النبي صلى الله عليه وسلم عند عودتهم: ((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام))، فالقتال إذًا جاء اجتهادًا من قائد الحملة ورفاقه.
خلاصة القول: أن سرية عبد الله بن جحش كانت بداية مرحلة جديدة، وهي مرحلة الحرب الصريحة المكشوفة مع قريشٍ، التي ابتدأت بغزوة بدر الكبرى، وانتهت بدخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة ظافرًا منتصرًا، في رمضان من العام الثامن للهجرة.