وفاة أبي طالب، وما تركتْه مِن أثر في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عزيزي الدّارس، 
مات أبو طالب سنة عشر مِن البعثة بعد الخروج من الحِصار الظالم في رَجب، وقيل: في رمضان قبل وفاة خديجة -رضي الله عنها- بثلاثة أيام.
وفي الصحيح عن سعيد بن المسيِّب: أن أبا طالب لمّا حضرتْه الوفاة دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده عبد الله بن أبي أميّة وأبو جهل بن هشام، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنك أعظم الناس عليّ حقاً، وأحْسنهم عندي يداً، ولأنت أعظمُ عليّ حقاً مِن والدي؛ فقُل كلمة تَجِبُ لك بها الشَّفاعة يوم القيامة. قلْ: "لا إله إلاّ الله)).
فقالا له: أتَرْغب عن مِلَّة عبد المطّلب، فقال: أنا على ملَّة عبد المطّلب، ومات. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والله لأستغفِرَنَّ لك ما لمْ أُنْهَ عنك))؛ فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
ثم نزلت الآية الأخرى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمِّه: ((قُل: "لا إله إلاّ الله"، أشْهَد لك بها عند الله يوم القيامة))، فقال: لولا أنْ تُعَيِّرَني قريش فيقولون: إنما حَمَله على ذلك الجَزَع، لأقررت بها عيْنك؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، صحيح مسلم.
ورُوي عن العباس بن عبد المطّلب قال: ((أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسولَ الله، عمّك أبو طالب كان يغضبُ لك ويمنعك، هل ينفعه ذلك؟ قال: ((نعم، هو في ضحضاح. ولولا أنا لكان في الدّرك الأسفل مِن النار)).
وفي مسلم، من حديث ابن عباس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((أهْون أهْل النار عذاباً: أبو طالب، وفي رجليْه نعلان مِن نار يغلي منهما دماغه)).
هذا ما صحّ في شأن أبي طالب على أنه مات على ملّة عبد المطّلب، أمّا الروايات الأخرى التي فيها أنه قال: "لا إله إلاّ الله" عند موته، فلم يصحّ فيها شيء.
ليس هناك مِن شكّ فيما قدَّمه أبو طالبٍ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن الحياطة والمنْع، فقد كان الحصنَ الذي تحتمي فيه الدعوة الإسلامية مِن هجمات الكبراء والسّفهاء.
وقد تلمّس بعضهم بعض الحِكَمْ: أنّ الله تعالى شاء أنْ لا يُسلم أبو طالب، ويموت على الكفْر قبل قيام الدولة الإسلامية بثلاث سنوات، لئلاّ يتوهّم أحَد أنّ أبا طالب كان وراء قيامها.
ويُمكن أنْ يلحق بذلك أمْر آخَر، وهو: أنّ مُقاربة الصالحين لا يترتّب عليها صلاحُ مَن أراد الله له الشقاوة: فهذا ولد نوح -عليه السلام- كان مِن المُغرَقين، وهذه امرأة لوط كانت مِن المَرجومين، وهذا عمّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- مات على ملّة الكافرين.

وفاة السّيِّدة خديجة -رضي الله عنها:-
بعد حياة حافلة بالجهاد والتَّضْحية، انتقلت أمّ المؤمنين السيدة خَديجة -رضي الله عنها وأرضاها- إلى رحمة الله، وما عند الله خيْر للأبرار؛ فقد كانت للرسول -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة الوَزير النَّاصح، والزوجة الحَنُون التي تريد أنْ توفِّر لزوجها كلّ سُبُل الراحة. فقد كانت وزيرة صِدق للنبي -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام، وكان يسكن إليها. وهي أمُّ أولاده كلّهم إلاّ إبراهيم. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يُحبّها ويُكِنُّ لها كلّ الاحترام، وكان دائما يتذكَّرُها ويُثْنِي عليها، ويَوُدُّ صديقاتها ويحترمهن، وعندما يراهنَّ يتذكّر أيامه مع خديجة -رضي الله عنها-.
وقد عاشت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- رُبع قرْن مِن الزمان، حيث توفّيَت على الرّاجح في السنة العاشرة مِن البعثة. وقد كانت وفاتها وأبي طالب في أسبوع واحد، بعد خروج بني هاشم وبني المطّلب مِن الحصار الظَّالم بأيام قلائل، وقيل: شهر ونصف، وقيل: شهر وخمسة أيام. ودُفنت بالحجون، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قبْرها، ولم تكُن الصلاة على الجنائز قد شُرعت. وكان عُمرها عندما توفِّيت خمْساً وستين سَنة.
وفضائلها كثيرةفهي سيّدة نساء أهل الجنّة، وقد بشّرها -صلى الله عليه وسلم- بقصْر مِن قصَب في الجنّة. فرضي الله عنها وأرضاها.