الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم بن أبي الأرقم:
مَن هو الأرقم؟
الأرقمُ بن أبي الأرقم، وأبوه اسمه: عبْد مناف بن أسد المخزوميّ، كان مِن أوائل مَن أسلم. شهِد بدراً والمشاهد كلّها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان من عقلاء قريش، وقد استخفى النبي -صلى الله عليه وسلم- في داره. 
رويَ عن الأرقم: "أنه تجهّز يريد بيت المقْدس، فلمّا فرغ مِن جهازه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يودِّعه، فقال: ما يُخرجك؟ حاجةٌ أو تجارة؟ قال: لا والله يا نبيَّ الله! ولكنْ أردت الصلاة في بيت المقْدس، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ((الصّلاة في مسجدي خيْرٌ مِن ألْف صلاة فيما سواه، إلاّ المسجد الحرام)) فجلس الأرقم ولمْ يخرج.
وقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- الأرقم سيفاً يُقاتل به يوم بدر، واستعمله -صلى الله عليه وسلم- على الصَّدقات. توفّي -رضي الله عنه- بالمدينة،وصلّى عليه سعد بن أبي وقاص سنة ثلاث وخمسين، وله ثلاث وثمانون -رضي الله عنه وأرضاه-.
موقع دار الأرقم:
كانت تقع عند الصّفا، وعُرفت بعد ذلك بدار الخيزران. وقد بُني مسجد في المكان الذي كان -صلى الله عليه وسلم- مُختبئاً فيه. وفي هذه الدار أسلم عُمَر بن الخطاب وجمْع مِن الصحابة، وظلّ -صلى الله عليه وسلم- بها حتى تكامل عدَد الصحابة أربعين، وخرجوا.
ومِن فضائل هذه الدار:
أنها كانت المدرسة الأولى لِتلقِّي التربية والدروس مِن الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وذكَر المباركفوري استنتاجاً: لماذا اختار -صلى الله عليه وسلم- هذه الدار ليَلْتقي بأصحابه فيها؟ فقال: "لأنّ الأرقم لمْ يكنْ معروفاً بإسلامه، ولأنه مِن بني مخزوم التي تَحمل لواء التنافس والحرْب ضدّ بني هاشم، إذ يُستبعَد أنْ يَختفي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قلْب العدوّ، ولأنه كان فتىً صغيراً عندما أسلم في حدود الستّ عشرة سنة، إذ إنه في هذه الحالة تنصرف الأذهان إلىمنازل كبار الصحابة".
يُضاف إلى ذلك: أنّ الدار كانت بالقُرب مِن الصّفا وتَكثر حول هذه المنطقة الحركة، فلو وُجدت حركة حولها لمْ يكنْ في ذلك شُبهة. وكان دخوله -صلى الله عليه وسلم- لهذه الدار في السنة الخامسة مِن البعثة، وكانت مُدّة إقامتهم في هذه الدار شهراً. وكان إسلام حمزة يوم ضُرب أبو بكر.
وممّا له صلة بهذه الدار: ما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت:
((لمّا اجتمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً، ألحّ أبو بكر -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الظهور، فقال: يا أبا بكر، إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يُلحّ عليه، حتى ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتفرّق المسلمون في نواحي المسجد، كلّ رجُل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالسٌ؛ فكان أوّل خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليهوسلم-)).
"وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضُربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً. ووُطِئ أبو بكر، وضُرب ضرباً شديداً. ودنا منه الفاسق عُتبة بن ربيعة، فجعل يضْربه بنعليْن مَخصوفيْن حتى ما يُعرف وجهه مِن أنفه. وجاءت بنو تيم يتعادَوْن فأجْلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يَشكّون في موته. ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد، وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لَنقتُلنّ عتبة بن ربيعة. وكان أوّل شيء تكلّم به أبو بكر: سؤالُه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأل أمّه. فقالت: والله ما لي علْم بصاحبكقال: فاذهبي إلى أمّ جميل بنت الخطاب، فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أمّ جميلفقالت: إنّ أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله. وإنْ كنتِ تحبِّين أنْ أذهب معك إلى ابنك. فقالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً. فدنت أمّ جميل منه وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إنّ قوماً نالوا هذا منك لأَهل فِسق وكفر! وإني لأرجو أنْ ينتقم الله لك منهم. قال: ما فعَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: هذه أمّك تسمع. قال: فلا شيء! دعيك منها! قالت: سالم صحيح. قال: فأين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإنّ لله عليَّ أنْ لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا، حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكَن الناس، خرجنا به يتّكئ علينا، حتى أدخلناه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
الحِصار الظّالم لبني هاشم وبني المطّلب
المقاطعة العامّة:
تقدّم الحديث عن المقاطعة التّامّة لبني هاشم وبني المطّلب، لوقوفهم صفاً واحداً للدّفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأساليب التي اتّبعتْها قريش في الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية، ولكنْ نُشير هنا إلى أنَّها بدأت في السنة السابعة مِن البعثة، وانتهت في السنة العاشرة منها. 
ذكر أصحاب السِّيرأنه لمّا رأت قريش أنّ الصحابة قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أمناً، وأنّ عُمر وحمزة أسلما، وأنّ الإسلام فشا في القبائل، أجمعوا على أنْ يقتلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فبلغ ذلك أبا طالب، فجمَع بني هاشم وبني المطّلب، فأدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شِعبهم، ومنعَه ممّن أراد قتْله، فأجابوه لذلك، حتى كفارهم فعلوا ذلك حميّة على عادة الجاهلية. فلما رأت قريش ذلك، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على أنْ لا يعاملوهم، ولا يناكحوهم، حتى يسلِّموا إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ففعلوا ذلك وعلّقوا الصحيفة في جوف الكعبة. ثلاث سنوات مِن الحصار الظّالم حتى جهدوا، ولم يكن يأتيهم شيء مِن الأقوات إلاّ خفْية حتى إنهم كانوا يُؤذون مَن اطّلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربهشيئاً مِن الصِّلات، إلى أنْ قام في نقْض الصحيفة نفَر مِن قريش، وهمهشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أبي أميّة، والمطعم بن عديّ، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري بن هشام بن الحارث؛ وكانت تربطهم ببني هاشم والمطلب صلات الأرحام.
وذكَر ابن هشام: أنّهم وجدوا الأرضة قد أكلتْ جميع ما فيها.
وكان أبو لهب -عدوّ الله- يقول: "يا معشر التّجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علِمتم مالي ووفاء ذمّتي، فأنا ضامن أنْ لا خسار عليكم!"