المعجزات حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم والصدِّيق في الغار، وفشل كفار مكة في الوصول إليه

ومن آيات الله أن أمر شجرة فنبتت في وجه الغار فسترته، وأمر العنكبوتَ فنسجت على وجهه، وأمر حمامتين فوقعتا بفم الغار، واقتفى الأعداء الأثر حتى وصلوا الغار، وكانوا من النبي صلى الله عليه وسلم قدر أربعين ذراعًا، نظر أولهم فرأى الحمامتين فرجع؛ فقال له أصحابه: مالك لم تنظر في الغار؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أنه ليس فيه أحد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله فعرف أن الله قد درأ عنه بهما. وخاطب الصِّدِّيقt رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: "يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه أبصرنا"، فقال صلى الله عليه وسلم بلغة الواثق المطمئن: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟))، وسجل الله تعالى ذلك في قوله عز وجل :{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم }[التوبة: 40]. ثم ركب صلى الله عليه وسلم بعيرًا، وركب أبو بكر بعيرًا، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فُهيرة خلفه؛ ليخدمهما في الطريق.
مضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومن معه في طريقهم إلى المدينة المنورة، ووقعت معجزةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم سجّلها الصِّدِّيقُ، قال: "أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق لا يمرّ فيه أحدٌ، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظلٌّ لم تأتِ عليه الشمسُ بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرةُ فسويتُ بيدي مكانًا ينام فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ظلّها، ثم بَسَطـُّ عليه فروًا، ثم قلت: نم يا رسول الله، وأن أنفض لك ما حولك، فنام صلى الله عليه وسلم"، ثم حكى أبو بكرٍ خبر مرور راعٍ بهما فطلب منه لبنًا، وصادف استيقاظ الرسول صلى الله عليه وسلم فشرب، ثم قال: "ألم يأنِ الوقت للرحيل؟ قُلتُ: بلى، قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك ونحن في جَلَدٍ من الأرض"، أي في أرض صلبة مستوية.
وهناك رواية يرويها الصحابي الجليل قيس بن النعمان السكوني ونصّها: لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرt يستخفيان، نزلا بأبي معبد، فقال: والله، ما لنا شاة، وإن شاءنا -أي: شياهنا- حوامل، فما بقي لنا لبن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحسبه فما تلك الشاة؟)) فأتى بها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة عليها، ثم حلبها عسًا فسقاه ثم شربوا، فقال: أنت الذي يزعم قريشٌ أنك صابئ، قال ((إنهم ليقولون))، قال: أشهد أن ما جئت به حق، ثم قال: أتبعك؟ قال: ((لا، حتى تسمع أنَّا قد انتصرنا وظهر أمرنا)). تقول الرواية: فاتبعه بعد ذلك.
وهذا الخبر به معجزة حِسِّيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم شاهدها أبو معبد هذا فأسلم.
ورواية سراقة بن مالك تكمل الخبر التاريخي، قال سراقة: "فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا حتى وقف علينا، فقال: والله، لقد رأيت ركبةً ثلاثة مروا عليّ آنفًا، إني لأراهم محمدًا وأصحابه -قال-: فأومأت إليه بعيني أن اسْكُتْ، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، ثم قال: لعلهم، ثم قال: سكتْ، قال سراقة: ثم مكثت قليلًا، ثم قمت قد خليت بيني وبين فرسي، ثم أمرت بفرسي فقُيد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي بعد أن دخلت بيتي فأخرج لي من دور حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها –أي: أستشيرها كما كان يفعل المشركون- ثم انطلقت فلبست لأمتي –أي: لبست دروعي- ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها؛ فخرج الذي أكره -يعني لا يضر- أي كأن القداح تقول له: إنك لن تضر الذي ابتغيته، قال سراقة: وقد كنت أرجو أن أردّه على قريش –أي: أن أعيد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش- فآخذ المائة ناقة، قال: فركبت على إثره، فبينا فرسي يشتدّ بي عثر فسقطت عنه، قال: فقلت ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره -أي: لا يضره- قال: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في إثره، فبينا فرسي يشتد بي عثر، فسقطت عنه، قال: فقلت ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره، قال: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في إثره، فلما بدا لي القوم ورأيتهم، عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض –أي: ذهبت الرجلان الأولان في الأرض، ساختا فيها فذهبت يداه في الأرض- وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعهما دخان كأنه الإعصار، قال: فعرفت، حين رأيت أنه قد مُنع مني، وأنه ظاهر –أي: منتصر على أعدائه- قال: فناديت القوم؛ فقلت: أنا سراقة بن جعشم أنظروني أكلمكم، فوالله، لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيءٌ تكرهونه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((قل له: وما تبتغي منا؟))، فقال له ذلك أبو بكر، فأخبرتهم بأمر الدِّيَّةِ، وما يُريد الناس بهم، ثم قلت: تكتب لي كتابًا يكون آية بيني وبينك، قال: اكتب له يا أبا بكر، أو اكتب له يا عامر بن فهيرة، فكتب لي كتابًا في عظم، أو في رقعة، أو في خزفة ثم ألقاه إلي فجعلته في كنانتي، ثم رجعت فسكت فلم أذكر شيئًا مما كان"، ثم حكى خبر لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وإسلامه على النحو الذي سيأتي إن شاء الله.
وقد ذكر سراقة في رواية صحيحةٍ أنه اقترب من الاثنين، أي: من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبي بكر الصِّدِّيقt، حتى سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو -أي: النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، كما ذكر أنه عرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئًا، وأن وصيته كانت: اخْف عنا، هذا موجود في (صحيح البخاري فتح الباري).
وقد احتاط الاثنان، النبي صلى الله عليه وسلم والصِّدِّيقt، في الكلام مع الناس الذين يقابلونهم في الطريق، فإذا سُئل أبو بكرعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني يهديه الطريق، وإنما يعني سبيل الخير، وقد صحَّ أن الدليل الذي استأجراه أخذ بهم طريق السواحل على النحو الذي فسَّره ابن إسحاق.
وهناك مُعجزة حسّية أخرى كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في طريق هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فقد روى الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي معبد، وابن السكن عن أم معبد -وهي عاتكة بنت خالد بن نظيف الخزاعية-، رووا كما روى غيرهم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة مهاجرًا إلى المدينة هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهم الليثي عبد الله بن الأُرَيْقِظ مرّوا على خيمة أم معبد الخزاعية، وهي لا تعرف النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وإذا القوم مُرمِلون مسنون، فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزناه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في جسر الخيمة -وفي لفظ: في كفاء البيت-، فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبد؟)) قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم -أي: هي متعبة فلم تستطع أن تخرج لترعى مع بقية الغنم- فقال لها صلى الله عليه وسلم: ((هل بها من لبن؟)) قالت: هي أجهد من ذلك، قال: ((أتأذنين لي أن أحلبها؟)) قالت: بأبي أنت وأمي نعم، إن رأيت بها حلبًا فاحلبها، فوالله ما ضربها فحل قط، فشأنك بها؛ فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح بيده ضرعها وظهرها، وسمى الله عز وجل ودعا لها في شاتها، فتفاجَّت عليه ودرّت واجْتَرّت, ودعا بإناء يربض –أي:يروي حتى النوم- يربض الرهط، فحلب فيه ثجًّا حتى علاه البهاء -وفي لفظ: حتى علاه الثمال, أي: الرغوة- ثم سقاها حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب صلى الله عليه وسلم آخرهم، وقال: ((ساقي القوم آخرهم شربًا)), ثم حلب فيه ثانيةً بعد بدء حتى ملأ الإناء, ثم غادره عندها، فبايعها وارتحلوا عنها".
أما أهل المدينة فعندما سمعوا بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إليهم، فإنهم كانوا يقفون في كل يوم حتى يغيب الظل، مما يدل على شدة حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخيرًا قدم رسول الله e فكان أول من رآه رجل من اليهود فصرخ بأعلى صوته قائلًا: يا بني قَيْلة –أي: الأنصار- هذا جَدُّكم قد جاء، يقول راوي الخبر: فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرنا لم يكن رآه قبل ذلك، وركبه الناس –أي: تزاحموا عليه- وما يعرفونه من أبي بكر حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك، وإن السكينة تغشاه، والوحي يتنزل عليه، وإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير، كما ذلك في سورة التحريم.
وكان قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من البعثة النبوية المباركة، الموافقة سنة ستمائة واثنين وعشرين من الميلاد.
أما خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار فكان أول يوم من ربيع الأول في نفس السنة، وقد أقام صلى الله عليه وسلم بقباء أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس بها مسجد قباء, أول مسجد أسس على التقوى، وصلى فيه e، وفي اليوم الخامس يوم الجمعة أدّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في المسجد الذي كان ببطن الوادي، وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم مائة رجل، ثم مضى المصطفى صلى الله عليه وسلم يمتطي ناقته، ويطلب من كل من أراد أن ينال شرف نزول النبي عنده -أن يدع الناقة، فإنها مأمورة، فلما بركت حمل أبو أيوب خالد بن زيد الخزرجي الأنصاري، حمل رحل النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في بيته، ونزل عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلّ الرجل وزوجته يتبركان برسول الله طوال فترة إقامته، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبنى مسجده النبوي هناك، وتغير اسم يثرب لتصبح: المدينة المنورة، وبقي صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، وأسهم صلى الله عليه وسلم في العمل مع المهاجرين والأنصار, ترغيبًا في العمل, وحبًّا فيه، وكان ينشد قائلًا وهو يعمل: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ، فارحم الأنصار والمهاجرة))، وبعد فراغه من البناء انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مساكنه.
أما علي ابن أبي طالب، فقد بقي بمكة ثلاث ليالٍ بأيامها, حتى أدَّى الودائع التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابها، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتالى المهاجرون يلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا ينتهي الطور المكي من الدعوة الإسلامية، لتنتقل بعد ذلك إلى الطور المدني.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وآخى بين الطائفتين، ووادع اليهود، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم، وشرط لهم واشترط عليهم، وخطب الناس خطبتين، حبب فيهما إليهم الإيمان، ورغبهم فيما عند الله صلى الله عليه وسلم وطالبهم بحسن عبادته وتقواه.
وبهذا تكون المدينة المنورة قد شهدت في هذه المرحلة المبكرة بناء المسجد النبوي، والمؤاخاة بين المسلمين مهاجرين وأنصار، كما شهدت إقامة ميثاق وتحالفٍ بين سكانها وعناصر مجتمعها من مسلمين وغير مسلمين، وشهدت تكوين مجتمعٍ جديد على أسس ومبادئ خالدة, وبهدي وتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن المدينة المنورة بدأ الإسلام ينتشر، وتم فتح مكة في عام (8)هـ الموافق عام (629)م، أصبح للهجرة مفهوم جديد حدّده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية))، وأضحى المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.