مِن تلك الاتّهامات التي اتهموها للنبي:
اتّهموه -صلى الله عليه وسلم- بالجنون، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}.وحكى عنهم تعالى قولهم: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}، وقد أجابهم الله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}. -والمجنون تخاف الناس مِن مخالطته-. إذاً ما هو الهدف مِن وراء هذه التهمة الكاذبة؟
اتّهموه -صلى الله عليه وسلم- بالسِّحر، وفي ذلك نزل قول الله تعالى : {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُوراً}.والناس يخافون مِن السّاحر.
اجتماع قريش لصدّ أهل الموسم عن الاستماع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعد الجهر بالدعوة، ووصول المفاوضات بيْنهم وبيْن أبي طالب إلى طريق مسدود. وقد أظلّهم موسم الحجّ، والرسول -صلى الله عليه وسلم- بدأ يدعو الناس عامّة وعلانية إلى الإسلام. فاجتمعوا لتوحيد كلمتهم وتنسيق جهودهم، للوقوف في وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته
وقد دعا الوليد بن المغيرة إلى هذا الاجتماع، وقال لهميا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمْر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياًواحداً، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً، ويردّ قولكم بعضه بعضاً. قالوا: فأنت فقلْ. قال: بل أنتم فقولوا أسمعْ. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله! ما هو بكاهنلقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجْعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ماهو بمجنون! لقد رأينا الجنون وعرفناه. ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوافنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر! لقد عرفنا الشّعر كلّه: رجزه وهجزه، وقريضه،ومقبوضه ومبسوطه. فما هو بشاعر! قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر! لقد رأينا السّحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول؟ قال: والله، إنّ لِقوله لحلاوة، وإنّ أصله لغدق... وما أنتم بقائلين مِن هذا شيئاً إلاّ عرف أنه باطل. وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر، يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرّقوا عنه بذلك.
وتذكر بعض الروايات: أن الوليد لما ردّ كل الآراء التي قالت بها قريش، قالوا له: أرنا قولك. فقال لهم: أمهلوني حتى أفكّر فيهفظل يفكر حتى أبدى لهم رأيه السابق.
وفيه أنزل الله تعالى ستّ عشرة آية مِن القرآن الكريم، مِن سورة (المدثر)، وفيها قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * َوجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.
ثم بعد اتّفاقهم، قاموا بتوزيع فِرَق على مداخل مكة المكرمة، للتحذير من الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وكان على رأس المحذِّرين منه: عمّه أبو لهب. وقد أدّى عملهم هذا إلى عكس ما كانوا يريدون؛ فقد صدرت العرب مِن ذلك الموسم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانتشر ذِكْره في بلاد العرب.
وكان هذا الموقف مِن قريش سبباً في إسلام بعض العرب، ومن ذلك قصة إسلام الطّفيل بن عمرو الدّوسي -رضي الله عنه-. فقد حذّروه مِن الاستماع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخوّفوه منه، حتى وضع قطناً في أذنَيْه مخافة أنْ يسمع كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولكنّ الله تعالى أراد له الخير، فسمع مِن الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فكان سبباً في إسلامه وإسلام قومه بإسلامه.
اتّهام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالكذب، -وهو الصادق الأمين-. ولكنه لما جاء بالحق، ونهاهم عن عبادة الأصنام، كذّبوه. وهكذا حال المبطلين في كل زمان ومكان.
يريدون أنْ يطفئوا نور الله بأقوالهم وأفعالهم، قال الله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. وقد ذكَر القرآن الكريم عنهم هذه التّهمة في حقّه -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال الله تعالى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}.
اتّهموه بالإتيان بالأساطير. قال الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.
وقالوا بأنّ القرآن مِن عند البشَر، وليس مِن عند الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.
1- السّخرية، الهدف منها: تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنويّة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
وروى الإمام البخاري: أنّ امرأة قالت للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ساخرة مستهزئة: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قرَبك منذ ليلتيْن أو ثلاثاً. فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى...}.
وروى البخاري: أنّ أبا جهل قال مستهزئاً: اللّهم إنْ كان هذا هو الحق مِن عندك، فأمطر علينا حجارة مِن السماء، أو ائتنا بعذاب أليم. فنزل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
2- الغمْز واللّمز والضّحك. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}.
ومرّ- صلى الله عليه وسلم- برجالات قريش في الحِجر، فلما قاربهم، غمزوه ببعض القول ثلاث مرات، فقال لهم: ((يا معشر قريش! أمَا والذي نفْسي بيده! لقد جئتُكم بالذَّبْح!))، ففزعوا مِن هذا الموقف فزعاً شديداً.
3- الاستعلاء والتكبّر. قال المشركون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء: صُهيباً، وبلالاً، وخباباً؛ فاطردْهم عنك! فنزل قول الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
كِبار المستهزئِين:
1- الأسود بن عبد المطّلب بن أسد.
2- الأسود بن عبد يغوث الزهري.
3- الوليد بن المغيرة المخزومي.
4- العاصي بن وائل السهمي.
وقد نزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ}، والوليد بن المغيرة هو القائل: أينزل على محمد، وأُترك؟ وأنا كبير قريش وسيّدها. ويُترك أبو مسعود -عمرو بن عمير الثقفي- سيد ثقيف؟ ونحن عظيما القريتيْن. فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. ومِن كبار المستهزئِين أيضاً:
أبو جهل، وأميّة بن خلف، والنّضر بن الحارث، والأخنس بن شريق، وأبيّ بن خلف
المراجع والمصادر



  1. الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، دار الكتب العلمية 2006م.
  2. السهيلي: الروض الأنف، تحقيق: مجدي منصور سيد الشورى، دار الكتب العلمية 1997م.
  3. المحب الطبري: الرياض النضرة في مناقب العشرة، دار الكتب العلمية –بيروت 1405هـ.
  4. سيد الناس: عيون الأثر، ابن الشركة العربية للطباعة والنشر 1959م.
  5. محمد بن يوسف الصالحي: سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، مجمع البحوث الإسلامية –القاهرة 1973م.
  6. ناصر الدين الألباني: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، المكتب الإسلامي 1952م.
  7. القسطلاني: شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية، المطبعة الأزهرية 1910م.
  8. ابن سعد: الطبقات الكبرى، دار صادر للطباعة والنشر 1998م.
  9. عبد السلام هارون: تهذيب سيرة ابن هشام– دار الكتب العلمية – 1996م.
  10. صفي الرحمن المباركفوي: الرحيق المختوم، دار الشرق العربي 2003م.
  11. الأزرقي: تاريخ مكة وما جاء فيها من الآثار، مكتبة خياط 1970م.
  12. الذهبي: سير أعلام النبلاء، دار الكتب العلمية، 2004م.
  13. محمد أبو شهبة: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة : دار القلم 1996م.
  14. عبد العزيز سالم: تاريخ العرب قبل الإسلام، مؤسسة الثقافة الجامعية 1973م.
  15. الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، دار الكتب العلمية 1980م.
  16. -محمد سعيد البوطي: فقه السيرة، دار الفكر، الطبعة العاشرة 2002م. 4

ابن هشام الأنصاري ، عبد الملك بن هشام الأنصاري، السيرة النبوية، دار الكتاب العربي، 2005م