بين نوح وقومه
دعا نوح قومه بلطف وأدب إلى تلك الكلمة التي دعا كل رسول قومه إليها: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فهو المستحق للعبادة، وحده،وغيره لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، وحذرهم من سوء عاقبة التكذيب، وأظهر شفقته بهم، وخوفه عليهم إذا ساروا في طريق الكفر، والضلال، وتركوا عبادة الله وحده.
وهو أسلوب مقنع مهذب، وبالرغم منه كان رد الملأ من قومه على دعوته أن وجهوا إليه التهم التي وقرت في نفوس الجهال من البشر،ومقتضاها أن الجنس البشري أحقر من أن يحمل رسالة الله، فإن تكن ثمة رسالة، فليحملها ملَك، أو مخلوق آخر، ومصدر هذه التهمة عدم الثقة في هذا المخلوق الذي استخلفه الله في الأرض.
وأودع فيه ما يكافئها من الاستعداد، والطاقة، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيئون لحمل الرسالة باختيار الله لهم، وهو سبحانه أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه.
إن فطرة الإٍنسان التي فطره عليها خالقه تدعوه إلى التصديق بحملة الحق، والإيمان بدعاة الهدى، والرشد، والانقياد لأئمة الناس -عليهم الصلاة والسلام،إلا أنّ قوم نوح تماروا، فقالوا: إذا كان الله يريد أن يختار رسولًا من البشر، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبار المتسلطين العالين؟
وهو كسابقه جهل بالقيمة الحقيقية للإنسان، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه، واستحق حمل الرسالة بخصوصه في المختارين من صفوته.
وهذه القيمة لا علاقة لها بمال، أو جاه، أو سلطان في الأرض، وإنما هي في صميم النفس، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى، والتلقي عنه،والتحمل للآيات، والصبر على أدائها، والقدرة على الإبانة، والبلاغ، وهو جهد في صميم النفس، وحمل لا يقوى عليه إلا خاصة الخاصة من الناس الذين يرسلهم الله بالبينات، وينزل عليهم الكتاب بالحق والميزان ليقوم الناس بالقسم.