الأحد، 30 يونيو 2013

خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها


هذا بحث مهم جدير بالعناية به والتأمل فيه واتباع أحسنه.
للعلماء في العدد المشترط في صحة الجمعة أقوال بلغت خمسة عشر كما في "فتح الباري". وقد تراءى لبعضهم تأييد قول أهل الظاهر منها في أنها تصح من اثنين قال: لأن بانضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما فقال: "الاثنان فما فوقهما جماعة"1. ثم قال: وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. ا. هـ.
وقد راق هذا الكلام طائفة فانتحلوه، وظنوه الحق الذي لا مرية فيه فاعتقدوه.
وأقول: إن للظاهرية في كثير من المسائل جمودًا جليًّا، وتهوسًا جدليًّا، وكثيرا ما يسفسطون ويشاغبون بقولهم لم يرد كذا ولم يأت أنه لا يصح إلا كذا وهل 

من دليل على أنه لا يكون إلا كذا. يعنون أنه يلزم في التشريع أن يكون كله مما تفوه به الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسلوب الذي ألفوه، وهذا لعمر الحق غفلة كبرى عن مقاصد الشريعة في كثير من أبوابها، وما هو إلا كالوقوف مع القشر دون اللباب أو اللفظ دون المعنى والجسم دون الروح.
السنة المأمور بها في العبادات هي قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره اتفقت على ذلك كلمة الأصوليين.
هذه الجمعة أصل مشروعيتها مضاهاة أهل الكتابين بالتجميع في الأسبوع بيوم فيه، لما فيه من الفوائد العظمى.
روى الحافظان عبد بن حميد وعبد الرزاق عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة. قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل أسبوع، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يومًا نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره. فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموا يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه. قال الحافظ ابن حجر: حديث مرسل رجاله ثقات1.
وأخرج مسلم والنسائي عن حذيفة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة".
وأخرج الحافظ ابن عساكر عن عثمان بن عطاء قال: لما افتتح عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجدًا ويتخذ للقبائل مسجدًا فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة2.

وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك. وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك. وكتب إلى أمراء الأجناد أن لا يبدوا إلى القرى وأن ينزلوا المدائن وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدًا واحدًا. وروى ابن أبي شيبة قال: كان عبد الله بن رواحة يأتي الجمعة ماشيا وإن شاء راكبًا وذلك من ميلين. وأخرج أيضًا أن أبا هريرة كان يأتي الجمعة من "ذي الحليفة".وأخرج أيضًا أن سعدًا كان على رأس سبعة أميال أو ثمانية وكان أحيانًا يأتيها وأحيانًا لا يأتيها، وأخرج أيضًا أن أنسا شهد الجمعة من "الراوية" وهي على فرسخين من "البصرة". وعن أبي هريرة قال تؤتى الجمعة من فرسخين، قال ابن حجر في "التلخيص": قال الأثرم للإمام أحمد بن حنبل: اجمع جمعتان في مصر؟ قال: "لا أعلم أحدًا فعله". انتهى.
قلت: ولذلك ذكر الأئمة من السلف مسائل من زحمه الناس يوم الجمعة وصور زحامه فقد جاء في "المدونة لمالك رضي الله عنه" قوله: من أدرك الركعة يوم الجمعة فزحمه الناس بعدما ركع مع الإمام الأولى فلم يقدر على السجود حتى فرغ الإمام من صلاته "قال" يعيد الظهر أربعًا. وقال مالك أيضًا: إن زحمه الناس فلم يستطع السجود إلا على ظهر أخيه أعاد الصلاة ولو بعد الوقت في مسائل أخرى. وكل ذلك مصداق ما قاله الإمام أحمد من أنه لم يعهد التعدد أصلًا. وقال ابن المنذر: لم يختلف الناس أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي تعطيل الناس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم في مسجد واحد أبين البيان بأن الجمعة خلاف سائر الصلوات وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد.
وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أن أول جمعة أحدثت في الإسلام في بلد مع قيام الجمعة القديمة في أيام المعتضد في دار الخلافة من غير بناء مسجد لإقامة الجمعة. وسبب ذلك خشية الخلفاء على أنفسهم في المسجد العام وذلك سنة "280". ثم بني في أيام المكتفي مسجد فجمعوا فيه.
وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا قال بتعداد الجمعة غير عطاء، وقال الراقعي: لم تقم الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين إلا في موضع الإقامة ولم يقيموا الجمعة إلا في موضع واحد، ولم يجمعوا إلا في المسجد الأعظم مع أنهم أقاموا العيد في الصحراء والبلد للضعفة وقبائل العرب كانوا مقيمين حول المدينة ما كانوا يصلون الجمعة ثمة ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، قال الحافظ ابن 
حجر: كل هذه الأشياء المنفية مأخذها الاستقرار فلم يكن بالمدينة مكان يجتمع فيه إلا مسجد المدينة.
وروى الترمذي من طريق رجل من أهل قباء عن أبيه وكان من الصحابة قال أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء1.
فأنت ترى من هذه الأحاديث والآثار وإطباق العصر الأول بداهة كون موضوع الجمعة الجماعة المتوافرة إذ شرعت لذلك وبه يضاهي ما يصنعه أهل الكتاب في يوميهم الذي هو سبب تشريعها فعجبًا لأهل الظاهر وغفلتهم عما نقلنا، وعن سر الاحتفال بها والأعجب منه تركهم التفطن لمعنى لفظة جمعة الذي لم يسمها الصحابة بذلك ونزل القرآن مصدقًا له إلا لما دل عليه مفهومها من كثرة الجمع وإليك البيان:
جاء في القاموس وشرحه: الجمعة بضم فسكون وبضمتين وكهمزة اليوم المعروف سميت بذلك لأنها تجمع الناس أي لاجتماعهم في يومها بالمسجد. والذين قالوا جمعة بضم ففتح ذهبوا بها إلى صفة اليوم أنه يجمع الناس كثيرًا كما يقال رجل همزة لمزة ضحكة. ا. هـ.
وأقول اتفق اللغويون على أن صيغتي فُعْلة بضم فسكون وفُعَله بضم ففتح للمبالغة، الأولى لمبالغة المفعول والثانية للفاعل، فمعنى الجمعة التكثير في المجموع أو في المجمعين، فهل لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن مسماها اللغوي المؤيد بفعله عليه السلام والخلفاء من بعده برأيه من غير نص ولا إجماع؟ وإذا جاز مثل ذلك بطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبدًا إذ علمنا أن لفظة الجمعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم إلا على الجمع الكثير ومن خالف بعد هذا فقد كابر.
بقي أن يقال أن صيغة جمعة للمبالغة كما برهن عليه فما أقل ما تحقق فيه 
مصداقها من الكثرة في عهده صلوات الله عليه فالجواب أن ما تحقق فيه أربعون كما كان في أول جمعة وقعت بالمدينة فإنهم كانوا أربعين، وكان المجمع بهم مصعب بن عمير قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فهذا العدد هو أقل ما وقع اتفاقًا1 وبه علم أن صيغة المبالغة في "جمعة" المفيدة للكثرة تصدق على هذا المقدار قطعًا وأن الذي يراه غير مجزئ لا حجة معه لا من لغة ولا من نقل ومنه يعلم ملحظ الإمام الشافعي في اشتراطه أربعين كأنه لحظ أن الجمعة لا بد فيها من وفرة الجمع وكثرته لما تفيده مادتها، ثم رأى أن الصحابة اجتزءوا بهذا العدد وأقروا عليه وفي اجتزئاهم بذلك وعتباره تجميعًا فائدة كبرى لأنه لولا هذا البيان لكان في اللفظ إجمال يضطرب فيه الفكر سيما وقد يرى أن المقدار المذكور ينحط عن درجة الكفاية في التجميع لما تفهمه المبالغة. ولذا ذهب ذاهب إلى اشتراط ثمانين فباكتفاء الصحابة وإقرارهم على أربعين علم أن هذا العدد مما يصدق عليه اللفظ لغة وشرعًا. نعم قد يبقى النظر فيما انحط عن هذا المقدار هل يكفي لاحتمال صدق الصيغة عليه أو لا لأنه لم يؤثر إقامتها بأقل منه ولا أذن في عهده صلوات الله عليه وعهد خلفائه الراشدين لأهل القرى الصغيرة أن يجمعوا2. الأمر فيه 
احتمال يصعب البت بأحد الوجهين إلا أنهما إذا وضعا في التوازن رجح الثاني لما تقضيه الصيغة والحالة المأثورة وسر المشروعية. والله أعلم.
ولنرجع إلى المناقشة مع الظاهرية فنقول: قالوا: ورد أن الاثنين فما فوقهما جماعة وكأنهم ذهلوا أن الجماعة في العرف الشرعي غير الجمعة وإنما يتم لهم لو قيل: جمعة بدل جماعة على أن هذا الحديث في إسناده الربيع بن بدر وهو ضعيف كما في المقاصد الحسنة للسخاوي وما ورد معناه أن الاثنين إذا أدركتهما فريضة من الخمسة "غير الجمعة ضرورة" فأم أحدهما الآخر كانت صلاتهما جماعة أي مثابا عليها ثواب الجماعة، وقصد الشارع أن الاثنين ينبغي لهما التضام في أداء الفريضة معا إذا اجتمعا ويكونان جماعة ليرتفع ما يتوهم أن الجماعة لا تكون إلا بعدد وافر حضًّا على التكاتف في العبادة وتوحيد الكلمة.
قلنا غير الجمعة لأن تلك علم بالضرورة أنها لم تقم إلا بالجمع الوافر في مكان واحد فما فوق بقدر الحاجة إليه.\\
اسم الكتاب: إصلاح المساجد من البدع والعوائدالمؤلف: القاسمي، محمد جمال الدينالفن: الثقافة الإسلاميةالناشر: المكتب الإسلامي الطبقة الخامسة 1403هـ-1983معدد المجلدات: 1عدد الصفحات: 279
للاطلاع على الكتاب اليكم الرابط: http://raqamiya.mediu.edu.my/BookRead.aspx?ID=3116


منقول من منتدى جامعة المدينة العالمية
http://vb.mediu.edu.my/showthread.php?t=3949

مع تحيات جامعة المدينة العالمية

0 التعليقات:

إرسال تعليق